أي اقتصاد نريد؟... وكيف نبلغه؟
قال الخبير الاقتصادي حسام عايش إن عيد الاستقلال الـ79 للأردن يطل كمحطة تاريخية تستوجب التوقف عند منجزات الماضي، ومآلات الحاضر، وإمكانات المستقبل، وتحديدًا فيما يخص المشهد الاقتصادي الوطني الذي أضحى، بامتياز، أحد أبرز معايير التقييم السيادي للدول في العصر الحديث.
وأوضح في تصريحٍ خاص لصحيفة "أخبار الأردن" الإلكترونية أن المشهد الاقتصادي الأردني يمتلك من الصلابة المؤسسية، والمرونة الإجرائية، ما مكنه ـــ وإن نسبيًا ـــ من الصمود أمام موجات متعاقبة من الأزمات الإقليمية والدولية، كان آخرها تداعيات الحرب الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة، وما أفرزته من ارتدادات مباشرة وغير مباشرة على منظومة الاقتصاد الكلي في الأردن.
أداء اقتصادي متماسك في بيئة إقليمية شديدة التقلب
ورغم أن المؤشرات الكلية لا تزال دون المستوى المأمول، سواء من حيث معدل النمو الاقتصادي الذي تراوح عند عتبة 2.5%، أو مستوى الدين العام الذي تجاوز 118% من الناتج المحلي الإجمالي، أو العجز المالي الهيكلي في الموازنة العامة، فإن الاقتصاد الأردني أظهر قدرة لافتة على الحفاظ على تماسكه، لا سيما في بيئة إقليمية تتسم بانعدام اليقين، وبتقلبات جيوسياسية ومخاطر اقتصادية مركّبة، وفقًا لما صرّح به لصحيفة "أخبار الأردن" الإلكترونية.
وذكر عايش أنه حين شهدت دول إقليمية تراجعًا في تصنيفاتها الائتمانية، حافظ الأردن على تصنيف ائتماني مستقر من كبريات وكالات التصنيف العالمية، بل وشهد تحسنًا في بعضها، في دلالة مباشرة على سلامة السياسات النقدية والمالية، وعلى وجود منظومة رقابية قادرة على امتصاص الصدمات، ولو بحدود نسبية.
ثبات نقدي وثقة مصرفية متصاعدة
وأردف عايش أن أحد أبرز مرتكزات الاستقرار الاقتصادي الأردني يتمثل في استقرار سعر صرف الدينار الأردني مقابل الدولار الأمريكي، والذي يشكّل ـــ في سياق الأسواق الناشئة ـــ إنجازًا استراتيجيًا، أسهم في تكريس الثقة بالاقتصاد الوطني، وانعكس بوضوح في ارتفاع حجم الودائع المصرفية إلى ما يزيد عن 47 مليار دينار، وبلوغ التسهيلات الائتمانية حدود 35 مليار دينار.
وتابع أن هذا الثبات النقدي هو نتيجة مباشرة لسياسات نقدية حصيفة، وسقوف رقابية متقدمة، وتنسيق مؤسسي دقيق بين السلطات المالية والنقدية، مما سمح بتكوين غطاء قوي من الاحتياطيات الأجنبية، وأبقى السوق في منأى عن التذبذبات الحادة التي تعصف بالعملات المحلية في أسواق مجاورة.
تحول مطلوب: من الاستهلاك إلى الإنتاج
ولفت عايش الانتباه إلى أن هذا الاستقرار الظرفي ـــ على أهميته ـــ لا ينبغي أن يُخفي الحاجة الماسّة لإعادة هيكلة النموذج الاقتصادي الأردني بأكمله، إذ لم يعد ممكنًا ـــ في ضوء التسارع العالمي نحو الاقتصاد المعرفي والتكنولوجي ـــ الركون إلى نموذج ريعي يغلب عليه الطابع الاستهلاكي، ويعتمد على التحويلات والمنح، ويُغفل المكونات الإنتاجية المستدامة.
واستطرد قائلًا إن ما يقتضيه الظرف الموضوعي اليوم، هو الشروع في تحوّل حقيقي نحو اقتصاد إنتاجيّ، تتسع فيه قاعدة القطاعات القادرة على توليد القيمة المضافة، ويُعاد فيه توجيه السياسات المالية لتحفيز الابتكار، وتوسيع الاستثمار في المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وتشجيع المبادرات الريادية في مجالات الذكاء الاصطناعي، والتقنيات الرقمية، والاقتصاد الأخضر.
ولن يكون لهذا التحول أي جدوى حقيقية ما لم يُقرَن بإصلاحات إجرائية جذرية تضع حدًا للتعقيدات البيروقراطية، وتُعزّز من تنافسية بيئة الأعمال، وتُقلّص فجوة الثقة بين المواطن والمؤسسات، وتُعيد تصميم النفقات الحكومية وفق معايير الكفاءة والمردودية الاقتصادية والاجتماعية، وفقًا لما ذكره لصحيفة "أخبار الأردن" الإلكترونية.
الاستقلال الاقتصادي: معيارٌ سيادي جديد
وأشار إلى أن استقلال الدول في العصر الحديث لم يعد يُقاس فقط بحدودها الجغرافية أو رموزها السيادية، وإنما بقدرتها على صياغة نموذج اقتصادي وطني قادر على الصمود، ومستعد للتكيّف، وقادر على توفير فرص العمل، ورفع مستوى الدخول الحقيقية، وتعزيز الرفاه الاجتماعي.
وعليه، فإن الاقتصاد الأردني، برغم حجم الضغوط المالية والتحديات الإقليمية، يُعد من الاقتصادات التي تتمتع ببنية تحتية تنظيمية ومؤسسية مؤهلة للانتقال إلى مرحلة اقتصادية أكثر كفاءة، شريطة تفعيل أدوات النمو المستدام، وربط السياسات الاقتصادية بالتحولات الديمغرافية والاجتماعية، وإعادة توزيع مكتسبات التنمية بشكل أكثر عدالة وفاعلية.
لحظة استقلال وفرصة مراجعة
وأكد عايش ضرورة النظر إلى الذكرى التاسعة والسبعين للاستقلال، على أنها لحظة وعي وطني تفرض علينا مقاربةً نقديةً لسؤال: أي اقتصاد نريد؟، والإجابة ـــ كما تظهر من تحليل المشهد ـــ تتطلب تحوّلًا من نموذج يتكيّف مع الأزمات إلى نموذج يستبقها، ومن اقتصاد يتأقلم مع الواقع إلى اقتصاد يعيد صياغته.
وبالتالي، فإن ترجمة الاستقلال السياسي إلى استقلال اقتصادي، يتطلب أدوات جديدة، وتفكيرًا غير تقليدي، وتوافقًا وطنيًا على أن الاقتصاد أداة سيادية لحماية الاستقرار، وتعزيز المناعة، وتوسيع أفق الحلم الوطني.

