هل حقق الأردن المأمول في بناء المناعة الرقمية؟
قال خبير الأمن السيبرانيّ وصفي الصفدي إنه في الذكرى التاسعة والسبعين لاستقلال الأردن، يتجدد الحديث عن أشكال جديدة من الاستقلال والسيادة، تتجاوز حدود الجغرافيا والسياسة التقليدية، لتلامس مستويات أكثر تعقيدًا تتعلق بالسيطرة على الفضاء السيبراني، وتأمين المكونات الرقمية للدولة، وصون الخصوصية المعلوماتية للمجتمع.
فبينما تمثل ذكرى الاستقلال مناسبة لاستدعاء المنجزات التاريخية وترسيخ الذاكرة الوطنية، فإنها أيضًا لحظة استبصار استراتيجي، تُحتم علينا أن نعيد تعريف مفاهيم "السيادة" و"الاستقلال" في ضوء المتغيرات المتسارعة التي أنتجتها الثورة الرقمية، وما رافقها من تحولات بنيوية في طبيعة المخاطر والتهديدات، وفقًا لما صرّح به لصحيفة "أخبار الأردن" الإلكترونية.
الأمن السيبراني بوصفه ضرورة وجودية للدولة الحديثة
وبيّن الصفدي أن الأمن السيبراني أصبح أحد أبرز أعمدة الأمن القومي الحديث، لارتباطه العميق بمفاصل الدولة الحيوية، من البنية التحتية للطاقة والمياه والاتصالات، إلى مؤسسات المال والأمن والدفاع، وصولًا إلى بيانات الأفراد وخصوصيتهم الرقمية.
وأوضح أن الأردن، من هذا المنطلق، وهو يستكمل بناء نموذج الدولة الصامدة وسط محيط إقليمي متقلب، أدرك مبكرًا أن امتلاك أدوات الدفاع السيبراني لا يقل أهمية عن امتلاك أدوات الدفاع العسكري أو السياسي، ذلك أن ن التهديدات الجديدة – بطبيعتها المتخفية وعابرة الحدود – تفرض نوعًا من "اليقظة السيادية الرقمية" الدائمة، تتجاوز الردّ إلى القدرة على التنبؤ والتحليل والاحتواء.
البنية المؤسسية والتشريعية… من التأسيس إلى التمكين
وأردف الصفدي أن الأردن ترجم هذه الرؤية من خلال تأسيس منظومة تشريعية، وتنظيمية متكاملة، كان أبرز معالمها إصدار قانون الجرائم الإلكترونية، وإنشاء المركز الوطني للأمن السيبراني بوصفه المرجعية العليا المنوط بها تنسيق الاستجابة الوطنية للحوادث السيبرانية، وبناء القدرات، وتعزيز التناغم بين القطاعين العام والخاص.
هذا إلى جانب إطلاق العديد من البرامج الأكاديمية والتدريبية في الجامعات الأردنية، والتي تستهدف تخريج جيل جديد من المتخصصين في مجالات أمن المعلومات، والتحقيق الرقمي، وهندسة الشبكات السيبرانية، وغيرها من المهارات الدقيقة ذات الطابع الأمني الاستباقي، وفقًا لما ذكره.
مؤشرات الأداء… تقدم استثنائي في زمن المنافسة السيادية
واستطرد الصفدي قائلًا إن هذه الجهود انعكست بوضوح في مؤشرات الأداء السيبراني العالمية، إذ حقق الأردن تقدمًا لافتًا في مؤشر الأمن السيبراني العالمي (GCI) الصادر عن الاتحاد الدولي للاتصالات (ITU)، متقدمًا من المرتبة 71 في عام 2020 إلى المرتبة 27 عالميًا في تقرير 2024، مع تسجيله علامة كاملة (100%) في ثلاثة من المحاور الخمسة التي يقيسها المؤشر، وهي إنجازات تضع الأردن في مصاف الدول النموذجية (Role - model) في هذا المضمار.
أما في مؤشر الأمن السيبراني الوطني (NCSI) الصادر عن مؤسسة E- Governance Academy الإستونية، فقد تصدّر الأردن دول العالم العربي، وجاء في المرتبة 20 عالميًا، ليؤكد بذلك ريادته الإقليمية، وتقدمه النوعي في مجال الحوكمة الرقمية والأمن المعلوماتي.
التحديات المتبقية والفرص الكامنة
رغم هذا التقدم، نوّه الصفدي إلى أن التحديات التي يواجهها الأردن – كغيره من دول العالم – ما تزال متشابكة ومركبة، وتشمل: تزايد تعقيد الهجمات السيبرانية من حيث التقنيات والأدوات المستخدمة، والنقص في الكوادر المتخصصة في مجالات دقيقة، وضعف الوعي السيبراني في بعض المؤسسات والقطاعات المجتمعية، وتأخر بعض الأطر التشريعية عن مواكبة وتيرة التهديدات المتغيرة، ومحدودية الاستثمار في البنية التحتية الرقمية والبحث العلمي السيبراني.
وعلى الجهة المقابلة، أشار إلى أن يملك الأردن فرصًا استراتيجية فريدة، أبرزها: موقعه الجيوسياسي كمركز توازن إقليمي، ورأس ماله البشري الشاب والمتعلم، وشبكته الدولية في التعاون التقني والأمني، وتراكمه المؤسسي في إدارة الأزمات الرقمية.
الاستقلال الرقمي كامتداد للاستقلال الوطني
وأكد الصفدي ضرورة إعادة تعريف استقلال الأردن في القرن الحادي والعشرين لا بوصفه مكتسبًا سياسيًا فقط، وإنما كمنظومة مناعية شاملة تتضمن القدرة على إدارة المخاطر السيبرانية، والتحكم بالبنية الرقمية، وتحصين الوعي المجتمعي، وتوجيه موارد الدولة نحو أمن المستقبل.
ولعلّ أبرز ما يجب العمل عليه الآن هو بناء استراتيجية وطنية ديناميكية للأمن السيبراني، ترتكز على: تطوير البنية القانونية والمؤسسية، وربط الأمن السيبراني بالأمن القومي والاقتصادي والاجتماعي، وإشراك القطاع الخاص في الحوكمة الرقمية، والاستثمار في البحث والابتكار المحلي، وتعزيز حضور الأردن في المنصات الدولية السيبرانية.
نحو سيادة سيبرانية مستدامة
وبيّن الصفدي أن الأردن يثبت مرة أخرى أنه قادر على مجابهة التحديات الجديدة بأدوات العصر، وأن معركة البقاء اليوم في الفضاء الرقمي، لا على الأرض فقط، بل فكما صاغ الأردنيون استقلالهم الأول بإرادة سياسية وعزيمة شعبية، فإنهم اليوم مدعوون إلى صياغة استقلال سيبراني جديد، يحمي المنجز، ويؤمّن المستقبل، ويُعلي من شأن السيادة الشاملة، بمفهومها العميق والحديث.

