"إلغاء حبس المدين"... أزمة مجتمعية تلوح في الأفق
أستاذ علم الاجتماع والجريمة الدكتور جهاد الحجي قال إن النص التشريعي لم يكن يومًا مجرد أداة لضبط السلوك، فهو تعبير عن هندسة اجتماعية عميقة تسعى إلى تحقيق توازن دقيق بين الحق والواجب، بين الحرية والمسؤولية، وبين الرحمة والردع.
وأوضح في تصريحٍ خاص لصحيفة "أخبار الأردن" الإلكترونية أن قرار إلغاء حبس المدين، لا يمكن قراءته باعتباره إصلاحًا قانونيًا فحسب، إذ ينبغي تفكيكه بوصفه تحولًا جذريًا في البنية المفاهيمية للنظام القانوني والاجتماعي الأردني.
فحين يُرفع الغطاء العقابي عن فعل الإخلال بالتزام مالي تعاقدي، دون أن يُستبدل ذلك الغطاء بآلية تنفيذية صارمة وعادلة تحفظ للطرف الآخر – أي الدائن – حقوقه، فإننا نكون أمام حالة من "التحييد المؤسساتي للعقوبة"، وهي مرحلة حرجة يُعاد فيها تعريف الجريمة والجزاء داخل الوعي الجمعي، بصورة تُنتج اضطرابًا قيميًا وخلخلة في منطق الردع، وفقًا لما صرّح به لصحيفة "أخبار الأردن" الإلكترونية.
وأردف الحجي أنّ العدالة، في جوهرها، عقد رمزي يؤمن الناس من خلاله أن القانون متكافئ، نافذ، ومحصّن من التمييز، وعندما تُنزع إحدى أدوات تنفيذ هذا العقد – كالحبس المدني – دون بديل عملي يعوّض فقدانها، فإن الشعور العام بالعدالة يتآكل، ويتحوّل القانون إلى نص بلا أنياب، يُقرأ في المحاكم ويُهزأ به في الأسواق.
وذكر علم الجريمة الرمزية، يرى أن ذلك يدفع الأفراد إلى البحث عن أدوات انتصار بديلة خارج النسق المؤسسي، بما في ذلك اللجوء إلى العنف الشخصي، أو إلى شبكات الضغط الاجتماعية والقبلية، أو إلى أشكال "العدالة الشعبية" التي تنذر بإحياء قانون الغاب بأقنعة حضارية.
على المستوى الاقتصادي، أشار الحجي إلى أن انعدام الردع الفعّال لتحصيل الحقوق يُدخل السوق في مرحلة من "اللاعقلانية السلوكية"، حيث تتراجع الثقة المتبادلة، وتتفشى ظاهرة التهرب من الالتزامات المالية تحت غطاء قانوني هش، مضيفًا أن المجتمعات تبنى على "رأس مال اجتماعي" متراكم من الثقة والاحترام المتبادل، وهذا الرأسمال يتآكل عندما يشعر الدائن أنه بلا حماية.
وفي بيئة اقتصادية أصلًا مثقلة بالتحديات الهيكلية كالأردن – من تضخم، وبطالة، وركود في الطلب المحلي – فإن أي ضربة إضافية لثقة الأفراد بالمعاملات المدنية قد تكون القشة التي تقصم ظهر الاقتصاد غير الرسمي، الذي يمثل شريانًا حيويًا في دورة النشاط الاقتصادي الوطني، كما ذكر.
ونوّه الحجي إلى أنه لا يمكن تجاهل أثر هذا القرار على تكوين بيئة خصبة للانحراف، فالمدين، حين يُفلت من تبعات أفعاله دون آلية إصلاح حقيقية، يتعوّد الإفلات، والدائن، حين يُحرم من حقه، يتعلّم العدوان، وبين هذا وذاك، يُفتح الباب لتفشي "الجريمة الاقتصادية الانتقامية"، كتزوير الوثائق، وانتحال الهوية، وتأسيس شبكات تحصيل خارج القانون، بل وربما استدعاء أدوات العنف الأهلي – بما فيها السلاح – كوسيلة لتعويض غياب الدولة.
واستطرد قائلًا إن الأخطر من ذلك، هو أن التواطؤ الضمني مع فكرة "تحرير المدين" قد يعيد إنتاج ثقافة "اللامسؤولية الفردية" التي تقوّض أساسات العقد الاجتماعي برمته، وتُكرّس نمطًا من المواطنة الهشة غير القائمة على الالتزام، بل على المراوغة والابتزاز العاطفي والحقوقي.
ولفت الحجي الانتباه إلى أن حماية المدين لا تعني إعفاءه من المسؤولية أو تحصينه من المساءلة القانونية، وإنما تهدف إلى إعادة توجيه العدالة نحو أدوات تنفيذية تتسم بمزيد من الإنصاف والتوازن، مشددًا على أهمية أن يسبق تنفيذ قرارات الحبس أو المطالبة القضائية بناءُ منظومة موازية عادلة، تتضمن آليات فعالة مثل نظام الحجز على الأجور والدخل الحقيقي، وإنشاء مسارات إلزامية للتحكيم المدني، وتفعيل وحدات قانونية مجتمعية متخصصة في الوساطة والتسوية، إلى جانب فرض التزام المدين بأداء خدمة مدنية إنتاجية تعود بالنفع على كل من المجتمع والدائن.
وحذّر من أن غياب مثل هذه المنظومة يجعل من القرار القانوني أداة تفكيك لا تحرير، ويحوّله من وسيلة رحمة إلى مدخل محتمل لفوضى اقتصادية واجتماعية عميقة.
وذكر الحجي أن كل تأخير في تصويب المسار، هو ترحيل للأزمة من قاعة المحكمة إلى الشارع، ومن نص القانون إلى فوهة السلاح، إذ لا بد
أن نتدارك، قبل أن تُكتب فصول الأزمة القادمة في سجلات الجريمة لا في دفاتر الاقتصاد.

