زيارة ترامب للسعودية تخلط الأوراق مجددًا... وخلاصة من 4 نقاط
قال الباحث في مركز "تقدم للسياسات" – لندن، أمير مخول إن زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب للخليج العربي، وتحديدًا إلى المملكة العربية السعودية، جاءت لتعيد خلط الأوراق مجددًا، ليس فقط على مستوى العلاقات الأميركية - الإسرائيلية، وإنما على صعيد إعادة تموضع المنظومة الدولية برمتها تجاه الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، بما فيه الموقف الأوروبي التقليدي، الذي طالما خضع طويلًا لما يسمى بـ"الابتزاز الأخلاقي الإسرائيلي" تحت لافتة اللاسامية.
وأوضح في تصريحٍ خاص لصحيفة "أخبار الأردن" الإلكترونية أن جولة ترامب، بدت على نحو غير قابل للتأويل، وكأنها تنطوي على إشارات واضحة لتجاوز حكومة نتنياهو، والتعاطي مع قضايا الإقليم بما فيها الملف الفلسطيني من منظور براغماتي متقدم لا يرهن الأولويات الأميركية بمصالح الحكومة الإسرائيلية المتطرفة، وهو ما التقطته أوروبا، التي لطالما ظلت رهينة "الشعور الجمعي بالذنب" التاريخي تجاه اليهود، فتبدو اليوم كأنها تلتقط أنفاسها، أو على الأقل تحاول جاهدة التحرر من عباءة الخضوع التلقائي للخطاب الإسرائيلي المهيمن.
وبيّن أن الدلالة الكبرى التي يمكن استنباطها من زيارة ترامب إلى الخليج، فإنها تكمن في تأكيده الضمني أن إدارة المستقبل – حتى ولو عاد إلى البيت الأبيض – لن تكون أسيرة أولويات حكومة يمينية دينية – قومية متطرفة، ذلك أن تجاوزه العلني لحكومة نتنياهو في مقاربات الملفات الفلسطينية، والإيرانية، والسورية، واليمنية، والسعودية، يفتح نافذة نادرة أمام أوروبا، ككتلة أو كدول منفردة، للعودة إلى تموضعها التاريخي كقوة داعمة لحل الصراع وفق القرارات الدولية، بعيدًا عن عقلية الانصياع للرواية الإسرائيلية الحصرية.
وذكر أن التصريحات الأخيرة الصادرة عن المستشار الألماني فريدريش ميرتس ووزير خارجيته يوهان فاديفول، تكتسب أهمية استثنائية، إذ تخلّت ألمانيا - ولو بحذر محسوب - عن الربط القسري بين انتقاد إسرائيل وبين اللاسامية، في مؤشر واضح على انزياح نوعي، بل وربما تحولي، في السياسات الألمانية التي لطالما تبنّت بشكل شبه مطلق الرواية الإسرائيلية.
ولعل أكثر ما يعزز هذا التحول المتدرج هو الموقف اللافت للرئيس الألماني فرانك-فالتر شتاينماير في 12 أيار/مايو، والذي دعا فيه صراحة إلى امتناع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن زيارة برلين، على خلفية ملاحقته قضائيًا أمام المحكمة الجنائية الدولية، وهو موقف لا يمكن عزله عن الوعي الأوروبي المتزايد بفداحة جرائم الحرب المرتكبة في قطاع غزة، والتي باتت تشكل، بحجمها وفظاعتها، إحراجًا أخلاقيًا وقانونيًا أمام الرأي العام الأوروبي وطبقاته الأكاديمية والنقابية والشبابية، وفقًا لما صرّح به لصحيفة "أخبار الأردن" الإلكترونية.
ونوّه مخول إلى أن الخطاب الألماني الرسمي لا يزال يؤكد "الالتزام الثابت بأمن إسرائيل كجزء لا يتجزأ من الهوية السياسية لألمانيا"، فإن الموقف الجديد يعكس في جوهره اختراقًا - وإن كان جزئيًا - لجدار الاصطفاف الأوتوماتيكي خلف إسرائيل، إذ يبدو أن هذا التحول يأتي نتيجة مباشرة لتغير المناخ الجيوسياسي المحيط، وتحديدًا التوتر بين إدارة ترامب وحكومة نتنياهو، والانزياحات الحاصلة في مواقف الإدارة الأميركية حيال الصراع.
وأردف أنه منذ السابع من أكتوبر 2023، تبلور في أوروبا تيار آخذ في الصعود، يرى في الاستمرار في دعم إسرائيل دون قيد أو شرط، يمثل تهديدًا صريحًا لمصداقية الاتحاد الأوروبي كقوة داعمة للقانون الدولي وحقوق الإنسان، مستطردًا أن هذا التيار يتجلى في مواقف عدة، من أبرزها تصريحات الممثل الأعلى للسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي سابقًا جوزيب بوريل، الذي أكد في نوفمبر 2023 على أن حل الدولتين لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال فرضه فرضًا من قبل المجتمع الدولي، مُحذّرًا من أن استمرار الاحتلال والتهجير والتطهير العرقي سيقود إلى انعدام الأمن، حتى داخل إسرائيل نفسها.
ومن جهة أخرى، فإن ما نرصده في ألمانيا لا يُعد خروجًا جذريًا عن الموقف الأوروبي، بقدر ما يمثل تعزيزًا لجوهره الكامن، الذي يدعو منذ عقود إلى حل الدولتين، لكنه يأتي هذه المرة محمولًا بزخم جديد نابع من التحضيرات الجارية لعقد مؤتمر دولي في نيويورك خلال شهر حزيران/يونيو القادم، بمبادرة فرنسية–سعودية مشتركة، هدفه الأساسي تدعيم مقومات إقامة دولة فلسطينية على أساس الشرعية الدولية، كما ذكر مخول.
واستطرد مخول قائلًا إن القارة العجوز تشهد تناميًا لافتًا للحراك الشعبي والطلابي والنقابي المؤيد لفلسطين، خصوصًا في إيطاليا، حيث تشهد الجامعات الكبرى والميادين المركزية مظاهرات منتظمة، تقودها قوى اليسار والحركات النقابية، تندد بالحرب على غزة، وتنتقد النفاق الغربي في التعاطي مع الحقوق الفلسطينية تحت ذريعة "مكافحة اللاسامية"، وقد رصد موقع "واينت" الإسرائيلي في 12 مايو هذه الظاهرة بقلق بالغ، مشيرًا إلى أنها باتت "تلامس حدود اللاسامية" وفق التعبير الإسرائيلي، ما يعني فعليًا أنها تُحرج تل أبيب وتفكك روايتها القديمة التي تساوي بين انتقاد السياسات الإسرائيلية ومعاداة اليهود.
وفي هذا السياق، تظهر ملامح انكسار تدريجي لما يمكن تسميته بـ"الهيمنة المعنوية الإسرائيلية" على الخطاب الأوروبي، وهي هيمنة قامت منذ عقود على معادلة مفادها أن أي انتقاد لإسرائيل هو بالضرورة فعل كراهية ضد اليهود، غير أن تنامي الجرائم في غزة، وتوثيقها بمستوى غير مسبوق، جعل من الدفاع عن إسرائيل أمرًا يتعارض مع القيم الأوروبية ذاتها، لا سيما في ما يتعلق بحقوق الإنسان، وسيادة القانون، ورفض الإبادة والتهجير القسري والتجويع كأدوات حربية.
وتابع مخول أن المفارقة الأشد إيلامًا لتل أبيب تتمثل في أن هذه التحولات لا تُعزى فقط إلى انتقادات دولية، وإنما إلى سياسات حكومة نتنياهو تحديدًا، والتي أوصلت إسرائيل إلى نقطة صدام مباشر مع المزاج العالمي، بما فيه حلفاؤها التقليديون في أوروبا، الذين دعموها في بداية الحرب على غزة، ثم بدأوا بالتراجع الصامت حين اتضح لهم أن الحرب تحوّلت إلى جريمة مستمرة ضد الإنسانية.
وأشار إلى أن أوروبا، وفي ضوء إدراكها العميق لتراجع الوزن الاستراتيجي لإسرائيل إقليميًا ودوليًا، بدأت تعيد تقييم أولوياتها، خصوصًا في ظل التحول العالمي نحو نظام متعدد الأقطاب، وتزايد الاعتماد على التكتلات الإقليمية والمصلحية. وفي هذا الإطار، فإن إسرائيل، تحت قيادة نتنياهو، تبدو معزولة أكثر من أي وقت مضى، وسط عالم يسعى لتطويق بؤر الصراع لا تغذيتها.
وعن الخلاصة، فإن زيارة ترامب إلى الخليج، وإن كانت رمزية حتى الآن، تعد مخرجًا محتملًا من حالة الجمود الدولي إزاء الحرب على غزة، وربما مؤشراً لبداية تحول جيوسياسي أوسع، أما التحولات الأوروبية، لا سيما الألمانية، فهي تمهد لإمكانية بلورة موقف دولي ضاغط نحو فرض حل الدولتين، مدعومًا بحراك شعبي ونقابي متزايد، فيما قد يشكل مؤتمر نيويورك القادم منصة استراتيجية لإعادة تعريف الموقف الدولي من القضية الفلسطينية، خارج القفص الإسرائيلي التقليدي، إلى جانب ما تظهره المؤشرات من احتمالية انكسار المنظومة المفاهيمية التي ساوت لعقود بين انتقاد إسرائيل ومعاداة اليهود، وهو ما يشكل تحديًا مباشرًا لمشروع نتنياهو في توسيع تعريف اللاسامية لخدمة أجندته الاستيطانية والعنصرية.

