أسئلة ملحة تفرض نفسها على المشهد الوطني
قال أستاذ علم الاجتماع السياسيّ الدكتور بدر الماضي إن ثمة حزمة من الأسئلة الكبرى التي تفرض نفسها بإلحاح على المشهد الوطني، سواء على مستوى الدولة ككيان سياسي ومؤسسي، أو على صعيد الأحزاب السياسية، والحكومات المتعاقبة، والسلطة التشريعية، بل وحتى على مستوى الوعي الشعبي الذي يشكّل مرآة دقيقة للواقع الوطني وتفاعلاته مع الإقليم ومحيطه الجيوسياسي المتقلب.
وأوضح في تصريحٍ خاص لصحيفة "أخبار الأردن" الإلكترونية أنه إذا ما تناولنا الدولة الأردنية بصفتها الإطار الجامع والمرجعية السيادية، فلا مناص من الإقرار بأنها قد قدّمت، وفق ما تسمح به الإمكانيات والسياقات، محاولات جادة في مجالات الإصلاح السياسي، والاقتصادي، والإداري، بالرغم من الهزّات العنيفة التي اجتاحت الإقليم، والتعقيدات الناجمة عن الجغرافيا السياسية الملتهبة المحيطة، والتي ألقت بظلال ثقيلة على الداخل الأردني، غير أن ما مكّن الدولة من اجتياز هذه المنعطفات الحرجة هو تلك العلاقة المتينة القائمة على الثقة المتبادلة بين القيادة والشعب، والتي شكّلت صمّام أمان ساهم في احتواء التحديات وتفكيك عناصر الأزمة في مهدها.
وبيّن الماضي أنّ المشهد لم يخلُ من محاولات بعض الفاعلين السياسيين والاجتماعيين لتجاوز الدور الدستوري والمؤسسي للدولة، عبر السعي إلى الانخراط المباشر في قضايا إقليمية حساسة - وفي مقدّمتها القضية الفلسطينية - بصورة تنمّ عن رغبة في مزاحمة الدولة على دورها المركزي، إمّا من خلال الضغط المتعمد على مؤسساتها الرسمية بهدف دفعها نحو انخراط مباشر في أتون الصراع، دون الاكتراث بما قد ينجم عن هذا الانخراط من تداعيات كارثية، قد تفضي إلى تدمير البنية الوطنية وتفتح الباب واسعًا أمام المشروع الصهيوني لتنفيذ مخططاته، أو من خلال تقزيم الجهد الوطني الأردني الرسمي، وإنكار ما تبذله القيادة الأردنية، بلا انقطاع، من دعمٍ سياسي ودبلوماسي وإنساني لفلسطين، لا سيما لأهلنا الصامدين في قطاع غزة، حيث لم ينقطع التواصل، سواء عبر مؤسسات الدولة أو من خلال جهود المجتمع المدني، في سبيل التخفيف من آلام المحاصرين والمنكوبين.
وفي السياق ذاته، تبرز إشكالية مركزية تتطلب مقاربة عميقة، وهي ضرورة تضييق فجوة الاختلاف والتنافر داخل الدولة الأردنية، وهي الفجوة التي تغذّيها، بكل أسف، بعض القوى السياسية والاجتماعية، التي لا تسعى إلى رأب الصدع بقدر ما تعمد إلى الإبقاء عليه متّسعًا، من أجل استثماره سياسيًا، وتوظيفه كأداة لاستقطاب الدعم الشعبي، انطلاقًا من قناعة لديها بأن بيئتها الحاضنة لا ترى في مؤسسات الدولة مرجعية نهائية، وإنما تفترض أن مشروعية الحركة السياسية تنبع من ارتباطها بقضايا الأمة الكبرى وليس من التفاعل مع الواقع الوطني المحلي، وفقًا لما صرّح به لصحيفة "أخبار الأردن" الإلكترونية.
وأشار الماضي إلى معضلة أخرى لا تقل خطورة، تتعلّق ببعض الحركات السياسية التي، ورغم التطورات الأخيرة وكشف النقاب عن مخططات خطيرة تمسّ صميم الأمن القومي الأردني، ما زالت تتبنى مقاربة مؤسفة ترى في بعدها الإقليمي مرتكزًا أيديولوجيًا يعلو على البعد الوطني، وهو ما ينعكس على خطابها الداخلي، ويجعل من أتباعها وأنصارها ينظرون إلى الدولة الأردنية لا باعتبارها وطنًا نهائيًا، وإنما باعتبارها حلقة من حلقات مشروع سياسي-ديني أوسع، تحكمه مرجعيات عابرة للحدود.
وذكر أن هذا الفهم المختل لمفهوم الانتماء الوطني هو الذي أدى إلى خلق فجوة عاطفية وفكرية بين مناصري تلك الحركات ومؤسسات الدولة، وهي فجوة تهدد بتآكل اللحمة الوطنية إذا لم تُعالج بالحوار الجاد والمنفتح، وبالعمل الحثيث على إعادة الاعتبار لفكرة "الدولة أولًا"، باعتبارها الضمانة الوحيدة للاستقرار، ولحماية الهوية الوطنية الجامعة من الذوبان في مشاريع أيديولوجية عابرة قد تفقد بريقها عند أول اختبار، لكنها تكون قد خلّفت وراءها جراحًا وطنية غائرة.
ونوّه الماضي إلى أن هذا الاشتباك السياسي - غير المتكافئ -بين الدولة وهذه الحركات، يستدعي من الأخيرة أن تعيد قراءة المشهد بدقة، وأن تعي أن مناكفة الدولة أو التشكيك في شرعيتها أو اتخاذ قرارات من خارج منظومتها القيمية لا يفضي إلا إلى إضعاف الذات، ويصبّ مباشرة في مصلحة مشاريع خارجية طالما عملت على زعزعة استقرار الأردن، وتحويله إلى ساحة اختبار لسيناريوهات الفوضى الخلاقة، التي أثبت التاريخ أن نتائجها لا تخدم سوى من خطط لها من الخارج.
واستطرد قائلًا إن اللحظة الراهنة تقتضي وعيًا سياسيًا استثنائيًا، يقوم على تغليب مصلحة الدولة، وتقديس مفهوم الوحدة الوطنية، والاعتراف بأنّ الإصلاح الحقيقي لا يتم إلا من داخل الدولة، لا من خارجها أو على أنقاضها، وأنّ أي مساس باستقرار الدولة، أو تآكل شرعيتها المعنوية، هو بمثابة مقامرة غير محسوبة العواقب، لا يدفع ثمنها إلا الوطن بكل مكوناته.

