الزيود تكتب: الهدوء الذي أربكهم

دعاء الزيود
حين تتداخل الأجندات تحت القبة، وتعلو الأصوات على الحسابات الوطنية، تنكشف ملامح المشهد السياسي على حقيقتها، دون حاجة إلى كثير من التحليل أو التفكيك. ما جرى في جلسة مجلس النواب الأخيرة لم يكن مجرد تباين في الآراء، بل كان لحظة اختبار حقيقية لمفهوم إدارة الدولة داخل مؤسسة يُفترض أنها بيت القرار.
حضرتُ الجلسة بكل تفاصيلها... الأصوات، الانفعالات، محاولات التقدم خطوة إلى الأمام في صناعة التأثير، أو ربما استرداد ما فات. لكن وسط كل هذا، كان ثمّة مشهد آخر لا يُقرأ من على الشاشات، بل يُفهم بعين تمرّست على التقاط التحولات: رئيس المجلس، أحمد الصفدي، لم يكن فقط يدير جلسة تشريعية، بل كان يختبر مدى قدرة المؤسسة على الصمود في وجه محاولة "تأطير" البرلمان بمنطق الصوت الأعلى.
ما ظهر للعلن هو توتر بين الصفدي وبعض النواب من كتلة الإسلاميين، لكن ما لم يُقَل هو أن هذه اللحظة السياسية كشفت عمق المأزق الحزبي عند البعض: حين تغيب الاستراتيجية، يحضر الصراخ.
رئيس المجلس لم يكن بحاجة إلى استعراض عضلات لفظية، بل استخدم أدوات "الضبط السياسي" بمهارة ملفتة. أدار الموقف وكأنه مدرّب قديم يعرف تمامًا متى يمنح المساحة، ومتى يقاطع، ومتى يصمت ليترك الطرف الآخر يكشف أوراقه للعلن.
ربما يكون الصفدي قدّم اليوم أداءً لا يُرضي ذائقة بعض من أرادوا للقبة أن تكون مسرحًا لا منصة تشريع، لكنه — دون أن يقولها صراحة — أكد أن هذا البرلمان لا يمكن أن يُدار بمنطق الشعارات، أو بـ"نوستالجيا المعارضة" التي لم تجدّد خطابها بعد.
وإن كنت لا أرغب في أن أبدو وكأنني أصفّق لطرف على حساب آخر، لكنني كصحفية تقرأ المشهد من الداخل، لا أستطيع إنكار أن ثمّة نضجًا في إدارة اللحظة، وتمكنًا في احتواء الاستفزاز، وضبطًا للإيقاع السياسي في قاعة تمور بالرهانات.
اليوم، لا نحتاج إلى بطولات صوتية، بل نحتاج إلى من يُدرك أن القوانين لا تُمرر بالصراخ، وأن الثقة لا تُستعاد بالصدام، وأن كسب الجمهور لا يعني خسارة الدولة.
في السياسة، لا مكان للمصادفة. والهدوء أحيانًا أشد وقعًا من الضجيج. ومن يقرأ جيدًا تفاصيل الجلسة، سيدرك أن بعض اللاعبين يحاولون فرض الإيقاع، لكن من يُمسك بالعصا فعلًا... هو من يعرف متى يعزف، ومتى يصمت، ومتى يُربك خصومه دون أن يرفع صوته.