نهاية المعضلة الإيرانية أقرب مما نعتقد... كل شيء عمّا تحاول إنقاذه

قال الكاتب والمحلل السياسي الدكتور محمد الزغول إننا نقف اليوم أمام تحوّل مفصلي في مقاربة الملف النووي الإيراني، في مشهد يبدو أقرب إلى الإعلان عن بداية نهاية واحدة من أعقد المعضلات الجيوسياسية في الإقليم، بل وعلى مستوى منظومة الأمن والسلم الدوليين بأسرها.
وأوضح في تصريحٍ خاص لصحيفة "أخبار الأردن" الإلكترونية أن هذا الملف، الذي لم يكن يومًا مسألة فرعية في سياسات طهران، فقد كان ولا يزال يمثل العقدة المركزية التي تشكّل العمود الفقري للمسألة الإيرانية برمّتها.
وبيّن الزغول أن الجمهورية الإسلامية أصرّت، منذ بواكير برنامجها النووي، على أن طموحها يندرج ضمن أهداف "سلمية بحتة"، وأن لا نية لديها في امتلاك السلاح النووي، غير أن الواقع المادي والتكلفة الباهظة التي تحمّلتها إيران، سواء على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي، تُفَنّد إلى حد كبير مقولة "الربح السلمي"، وتشي بأن هذا الطموح لم يُفضِ سوى إلى مزيد من العزلة، والضغوط، والاختلالات البنيوية التي عصفت بمؤسسات الدولة والمجتمع على حد سواء.
اقتصاد مأزوم ومجتمع مأزوم أكثر
ونوّه إلى أنه لا يخفى على المتابع المحايد أن إيران لم تحصد من هذا البرنامج سوى نتائج كارثية، على رأسها ما أفرزته العقوبات الاقتصادية من آثار مدمّرة، فبحسب اعترافات رسمية، على رأسها تصريح وزير الخارجية الأسبق محمد جواد ظريف، فقد بلغت خسائر إيران ما يقارب 1200 مليار دولار نتيجة العقوبات المفروضة، ورغم ذلك، لم يتجاوز العائد من البرنامج النووي، فيما يخص مساهمته في قطاع الكهرباء، نسبة ضئيلة لا تكاد تُذكر.
وذكر الزغول أن ذلك تزامن مع تضاعف أعداد الفقراء داخل إيران؛ إذ ارتفع عدد من هم تحت خط الفقر من 16 مليونًا عام 2011 إلى ما يزيد عن 26 مليونًا عام 2022، في مؤشّر دلّ على حجم الاختلالات الهيكلية التي بدأت تنخر البنية الاجتماعية، ومما فاقم الأزمة، ظهور طبقة برجوازية طفيلية، تستفيد من واقع العقوبات وتتربّح من اقتصاد الظل، تقدر قيمة أنشطتها ما بين 15 إلى 20 مليار دولار سنويًا، وهي طبقة صاعدة تسعى، بدافع المصلحة الذاتية، إلى perpetuation العقوبات، لأنها تمثّل مصدرها الوحيد للثروة والنفوذ.
تفكك الأجهزة وشرعنة اقتصاد التهريب
ولفت الانتباه إلى أن إيران - وفي سياق محاولتها للالتفاف على العقوبات - لجأت إلى "شرعنة" دور الأطراف غير الرسمية، ومنحت المهربين، والمتنفذين، وبعض الأجهزة الاستخباراتية صلاحيات واسعة في استيراد المواد المرتبطة بالبرنامج النووي، وتصدير النفط خارج الأطر الشرعية، وجلب العملات الصعبة بطرق غير قانونية، مضيفًا أن ذلك أفضى إلى خلخلة جهاز الدولة من الداخل، وترسيخ أنماط من الاقتصاد الموازي الذي بات يتغوّل على الاقتصاد الرسمي، حتى أصبح التهريب والفساد المؤسسي جزءًا لا يتجزأ من المنظومة الإدارية والاقتصادية في البلاد.
من الثورة إلى الدولة الفاشلة
ونوّه الزغول إلى أن المآلات التي وصل إليها الداخل الإيراني انعكست بقوة على محيطه الإقليمي، إذ فقدت طهران تدريجيًا موقعها كقوة ثورية مؤثرة، وبدت أقرب إلى الدولة الفاشلة المحاصرة بالمشكلات الداخلية والتناقضات البنيوية، ونتيجة لذلك، أضحت المنطقة بأسرها رهينة توترات هيكلية مستمرة، عزّزها غياب أفق حقيقي للتسوية، وتصاعد الرغبة لدى خصوم إيران في استثمار هذا الضعف لفرض حلول قسرية.
عقيدة ثابتة واستراتيجية ضغط
وأشار إلى أنه لا يمكن تجاهل موقف إسرائيل، التي ظلّت ترفض -بشكل ممنهج - أي مسار تفاوضي قد يفضي إلى تسوية سلمية للملف النووي الإيراني، سواء أفضت تلك التسوية إلى نتائج إيجابية أو سلبية من وجهة نظر المجتمع الدولي، إذ ترى تل أبيب أن الخيار العسكري وحده هو القادر على تحييد التهديد الإيراني بصورة نهائية، إلا أن عجز إسرائيل عن تنفيذ ضربة منفردة دفعها إلى ممارسة ضغوط مكثفة على واشنطن، من أجل أن تقود ضربة دولية مشتركة ضد المنشآت النووية الإيرانية.
ورغم التحركات الدبلوماسية الأخيرة التي شهدتها العاصمة العمانية مسقط، والتي أعادت الأمل بإمكانية فتح قنوات حوار جاد، فإن التصريحات الصادرة عن البيت الأبيض تكشف عن تذبذب في الموقف الأمريكي، فبينما لا يُعد الخيار العسكري "الخيار المفضل"، لم يتم إلغاؤه أو استبعاده نهائيًا، وهو ما يتسق مع نشر ثلث القدرات العسكرية الأمريكية الاستراتيجية في المنطقة، في رسالة واضحة مفادها: التهديد العسكري ما زال قائمًا وجدّيًا، وفقًا لما صرّح به الزغول لصحيفة "أخبار الأردن" الإلكترونية.
صراع مؤسسي على من يتحكم بالملف
واستطرد قائلًا إن الانقسامات داخل بنية الحكم في إيران تُعد من أبرز التحديات التي تواجه أية تسوية مستقبلية، فلطالما شكّل الملف النووي نقطة نزاع بين وزارة الخارجية والمجلس الأعلى للأمن القومي، الذي يُعد الذراع الأمنية الأكثر ارتباطًا بالحرس الثوري، وقد تنقل هذا الملف بين المؤسستين في أكثر من مناسبة؛ من يد المجلس في عهد أحمدي نجاد، إلى وزارة الخارجية في عهد روحاني، ثم عاد إلى المجلس بعد انسحاب ترامب من الاتفاق عام 2018، دون إعلان رسمي، وها هو اليوم يعود إلى الواجهة مع صراع خفيّ حول من يملك حق التفاوض.
وتابع الزغول أن مظاهر هذا الصراع تتجلى في مطالبة أطراف داخل البرلمان والمجلس الأعلى بتسمية الوفد المفاوض، في مقابل تمسك الخارجية بدورها، بما يعكس تعدد مراكز القرار وتضارب الصلاحيات، وهي معضلة جوهرية تعيق اتخاذ قرارات استراتيجية على مستوى الدولة الإيرانية.
ولفت الانتباه إلى أن التهديد العسكري الأمريكي، الذي يُفترض أنه موجّه ضد إيران، كان له أثر فاعل في كسر الجمود الدبلوماسي داخلها، إذ مكّن الحكومة من إقناع الأطراف المتشددة بإتاحة المجال للحوار، وهو ما أتاح لقاءات مسقط الأخيرة بين "ويتكوف" و"عراقجي"، والتي ما كانت لتتم لولا هذا الضغط العسكري الميداني.
وقال الزغول إن تفكيك العقدة النووية الإيرانية يعد مدخلًا موضوعيًا لتفكيك شبكة من الأزمات الممتدة، التي تشمل الداخل الإيراني، والهيكل الأمني الإقليمي، والتوازنات الدولية، وإذا ما تمّت مقاربة هذا الملف بروح واقعية وتشاركية، فإن حلّه من شأنه أن ينعكس تلقائيًا على ملفات عالقة أخرى، قد يكون من أبرزها الملف اليمني، والعلاقة مع دول الخليج، والمشهد السوري، فضلًا عن تخفيف منسوب التوتر الدولي حول أحد أكثر الملفات اشتعالًا في العالم.
إننا إذ نرصد مؤشرات "بداية النهاية" لهذه المعضلة، فإننا لا نقع في فخ التفاؤل المفرط، بل نقرأ حركة الواقع كما هي: معقّدة، ومتشابكة، لكنها ليست عصيّة على التفكيك إذا ما توافرت الإرادة السياسية، وتقلّصت شهوة الأطراف في التوظيف السياسي للنووي، سواء في طهران أو تل أبيب أو واشنطن، وفقًا لما جاء على لسان الزغول.