الدباس يكتب: السلط لا تقع.. ولكن الأصنام تُصنع
محمود الدباس - أبو الليث
بينما كان ذاك الشاب السلطيّ.. يجلس في مجلس يجمعه بشباب من مختلف الأقطار العربية.. وعندما سُئل بحسن نية.. "أين تقع السلط؟!".. لم يتمالك نفسه.. احمرّ وجهه وكأنما تلقى إهانة شخصية.. وقال بحزم.. "السلط لا تقع".. لم يكن السائل يقصد وقوع السلط سقوطاً.. أو دماراً.. بل كان يسأل عن موقعها الجغرافي.. لكن الحب المفرط.. أعمى بصيرته في تلك اللحظة.. وجعله يرفض حتى صياغة السؤال.. الذي لم يكن يحمل أي إساءة.. هذه القصة التي يتداولها البعض على سبيل الدعابة.. وليست حقيقة.. تعكس ظاهرة خطيرة.. ظاهرة التقديس الأعمى.. الذي يجعل من الإنسان يرى معبوده في صورة.. لا يجرؤ حتى على وصفها بصفات الواقع.. كأن الحقيقة نفسها قد تُنقص من مكانته أو تشوهها..
الأصنام لا تُنحت من الحجارة فقط.. بل تُنحت في العقول قبل أن تُنصب في الميادين.. نحن من نصنعها حين نمنح أشخاصاً أو مؤسسات.. أو أماكن.. هالة من القدسية المطلقة.. حين نرفض أن نراها كما هي.. حين نتجاهل أخطاءها.. ونحارب من يجرؤ على وصفها بغير ما نريد.. وهكذا نصنع من الإنسان معبوداً.. ومن المكان أسطورة.. ومن المؤسسة كياناً لا يُمسّ.. وحينها لا يعود المعبود قادراً على تقبّل النقد.. أو التطور.. فيتحول إلى تمثالٍ جامد.. لا ينفع ولا يضرّ.. يتهيب الجميع الاقتراب منه.. حتى حين يوشك على السقوط..
نحن لا ندعو إلى التجريح أو الطعن أو التشويه.. فالمؤسسات الوطنية يجب أن تُصان.. والأماكن التي نحبها يجب أن نحترمها.. والقيادات التي تعمل بإخلاص يجب أن تُقدّر.. ولكن الفرق بين الاحترام والتقديس شاسع.. فالتقديس يجعل من الإنسان إلهاً لا يُخطئ.. وإن كان خطأه جلياً.. والمؤسسة حصناً لا يُخترق.. وإن شابها ما شابها.. والمكان جنة فوق الأرض لا تحتمل النقص.. حتى وإن اصبحت مساوئها على ظهور الاشهاد.. وهذا أمرٌ لا يرضاه عقلٌ.. ولا يقبله منطق..
كم سمعنا عن مسؤولين.. وقادة في وطننا الحبيب.. ينفرون ممن يبالغ في مديحهم.. ويدافع عن اخطائهم بغير حق.. حتى أن بعضهم يوقف المادح بأدب ويقول له.. "ادخل في الموضوع".. لأنهم يعلمون أن التملّق ليس احتراماً.. بل هو شكل آخر من أشكال التقديس.. الذي يضعهم في أبراج عاجية.. تفصلهم عن واقع الناس.. فالمسؤول الذي يحيط نفسه بمن يرونه فوق النقد.. لن يعرف يوماً مكامن الخلل في قراراته.. والشعب الذي يرفض رؤية الحقيقة عن مؤسسة ما.. لن يسهم في تطويرها.. بل سيتركها تتآكل من الداخل.. والمحب الذي لا يرى في مدينته سوى الكمال.. لن يكون قادراً على المساهمة في نهضتها..
الأوطان تُبنى بالمحبة العاقلة.. لا بالمحبة العمياء.. والاحترام الحقيقي.. لا يكون بتقديس الأشخاص.. أو المؤسسات.. بل برؤيتها كما هي.. بنجاحاتها وإخفاقاتها.. بنورها وظلها.. فالتاريخ لا يكتب عن الأصنام.. بل يكتب عن من كسروا قيود الجمود.. وأحدثوا الفرق.. وما بين الغلوّ والموضوعية.. هناك طريق واحد.. طريق الحقيقة.. بكل ما فيها من نورٍ وظِلال..