إيران... إطاحات واستنفار داخلي مقابل مشروع نووي متأرجح
قال رئيس برنامج الدراسات الإقليمية في مركز الشرق الأوسط للدراسات الأستاذ الدكتور نبيل العتوم إن النظام الإيراني يشهد في هذه المرحلة حالة من الارتباك العميق على المستويين السياسي والاقتصادي، حيث تتصاعد الهواجس لدى النخب الحاكمة، وفي مقدّمتها السلطة القضائية، من إمكانية اندلاع موجات احتجاجية واسعة النطاق أو تصاعد وتيرتها إلى مستويات غير مسبوقة.
وأوضح في تصريحٍ خاص لصحيفة "أخبار الأردن" الإلكترونية أن هذه المخاوف، المتجذّرة في إدراك عميق للهشاشة الداخلية، تتعزز بفعل تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، لا سيّما بعد التدهور الحاد لقيمة الريال الإيراني، الذي بلغ مستويات قياسية غير مسبوقة تجاوزت حاجز 93,000 تومان للدولار الواحد، مقارنةً بـ60,000 تومان في منتصف عام 2020، مضيفًا أن ما يضاعف من خطورة هذا الانهيار النقدي هو التسارع المطّرد في فقدان العملة المحلية لقيمتها، حيث خسرت أكثر من 54% من قيمتها خلال الأربعة عشر شهرًا الماضية، وهو ما يُترجم عمليًا إلى تآكل القدرة الشرائية لدى المواطن الإيراني وتزايد الضغوط المعيشية إلى حدٍّ غير مسبوق.
وبيّن العتوم أن المخاوف المتنامية لدى الطبقة الحاكمة تبدو امتدادًا طبيعيًا لما يمكن توصيفه بحالة استنفار استباقي يهدف إلى احتواء أي اضطرابات شعبية محتملة قبل أن تتحول إلى حراك جماهيري شامل يهدد أسس النظام ذاته، مستطردًا أن ما يعزز هذه المخاوف هو غياب أي أفق واضح للخروج من المأزق الاقتصادي، لا سيّما في ظل تعثر الجهود الرامية إلى التوصل لاتفاق نووي جديد مع الولايات المتحدة الأمريكية، واستمرار الأخيرة في تطبيق سياسة "الضغوط القصوى"، وهي سياسة تفرض قيودًا خانقة على الاقتصاد الإيراني وتحدّ من قدرته على التفاعل مع الأسواق العالمية والانخراط في النظام المالي الدولي.
وذكر أن الجمود الحاصل في المفاوضات النووية لا يشكل عقبة اقتصادية بقدر ما هو معضلة استراتيجية تُلقي بظلال ثقيلة على مجمل المشهد الإيراني، حيث تتزايد القناعة داخل دوائر القرار بأن استمرار هذا الوضع قد يُفضي إلى تفكك داخلي يصعب احتواؤه، إلا أن ما يجري داخل بنية النظام الإيراني يُشير بوضوح إلى أن ثمة صراعًا محتدمًا بين الطبقات المختلفة، وهو صراع لا ينحصر في نطاق الخلافات الأيديولوجية أو التباينات السياسية فحسب، وإنما يمتد إلى مستويات أكثر تعقيدًا تتعلق بتحديد مراكز النفوذ وإعادة رسم معادلات القوة داخل الدولة.
ونوّه إلى أن إقالة وزير الاقتصاد الإيراني عبد الناصر همتي – الذي يُعدّ شخصية بارزة ذات خبرة عميقة في الإدارة الاقتصادية بالنظر إلى فترة رئاسته للبنك المركزي – تجسّد أحد أبرز مظاهر هذا الصراع، حيث تتجاوز هذه الإقالة كونها مجرد إجراء إداري إلى كونها انعكاسًا لعملية تصفية حسابات واسعة النطاق بين المؤسسات المختلفة، وتحديدًا بين التيار المحافظ المسيطر على مجلس الشورى ومؤسسات الحرس الثوري، وبين ما تبقى من جناح تكنوقراطي ذي نزعة إصلاحية، والذي أضحى في موقع دفاعي على نحو متزايد.
ويمكن القول بأن هذا الصراع الداخلي هو جزء من ديناميكية أعمق تُعبّر عن إعادة تموضع القوى داخل النظام في أعقاب تآكل نفوذ التيار الإصلاحي، إذ يبدو واضحًا أن الإطاحة بمحمد جواد ظريف – الذي كان يمثل الوجه الدبلوماسي المقبول دوليًا – تعكس رغبة الجناح المحافظ في إحكام قبضته على السياسة الخارجية ومنع أي محاولة لخلق انفتاح مع الغرب خارج الأطر التي يحددها الحرس الثوري، ليكون من المثير في هذا السياق أن هذه الخطوة جاءت في توقيت حرج يعكس استعداد النظام للجوء إلى خيارات أكثر تشددًا، حتى وإن ترتب على ذلك المزيد من العزلة الدولية وتفاقم الأزمات الداخلية، وفقًا لما صرّح به العتوم لصحيفة "اخبار الأردن" الإلكترونية.
ولفت الانتباه إلى أن التطورات المرتبطة بالمشهد الإيراني تبدو مرهونة بعدة متغيرات جوهرية تتداخل فيها الأبعاد الاقتصادية بالسياسية والاستراتيجية، فمن جهة أولى، تظل إمكانية تخفيف الضغط الاقتصادي مرهونة بالتوصل إلى اتفاق نووي جديد يُعيد إيران إلى منظومة الاقتصاد العالمي ويفتح قنوات التبادل التجاري والاستثماري التي أُغلقت بفعل العقوبات، بيد أن هذا المسار لا يزال محفوفًا بالعقبات، بسبب الموقف الأمريكي المتشدد من جانب، ونتيجة الانقسامات الداخلية في طهران حول مدى جدوى تقديم تنازلات كبيرة في الملف النووي من جانبٍ آخر، مستطردًا أن محاولة النظام تحسين علاقاته الإقليمية والدولية تمثل خيارًا استراتيجيًا لتخفيف حدة الضغوط الاقتصادية، إلا أن هذه الجهود تصطدم بتعقيدات المشهد الإقليمي، حيث تواجه إيران خصومة متزايدة من جانب القوى الإقليمية المنافسة، ما يجعل فرص الانفتاح محدودة وتكتيكية أكثر منها استراتيجية.
ونوّه العتوم إلى أن خيار تنويع الاقتصاد في ظل هذه الظروف، يبرز كاستراتيجية داخلية لمحاولة التخفيف من تداعيات العقوبات، حيث تتجه الأنظار نحو تعزيز الصادرات غير النفطية، لا سيما في قطاعي البتروكيماويات والصناعات التحويلية، غير أن هذا المسار يواجه تحديات هيكلية تتعلق بضعف البنية التحتية الاقتصادية وعدم كفاءة السياسات المالية، فضلًا عن استمرار النزيف الاقتصادي الناجم عن العقوبات.
من زاوية أخرى، قال إن المشهد الاجتماعي في إيران يكتسب أهمية متزايدة، حيث تُشير التقارير إلى أن الأزمة الاقتصادية تركت آثارًا كارثية على قطاعات واسعة من المجتمع، فوفقًا لأحدث الإحصاءات، يعيش نحو 40 مليون إيراني تحت خط الفقر، في حين يعجز نحو 13 مليون مواطن عن توفير الاحتياجات الأساسية، فيما تُظهر البيانات أن تكلفة الإسكان تستهلك ما يقرب من 50% من دخل الأسر، ما يعني أن ملايين الإيرانيين يرزحون تحت وطأة ضغوط معيشية خانقة.
وأكد العتوم ازدياد خطورة هذا الوضع مع تسجيل ارتفاعات كبيرة في معدلات الفقر في المناطق الريفية والمهمشة، حيث أشارت تقارير إلى أن نسبة الفقر في بعض المحافظات، مثل خراسان، ارتفعت بنسبة 30% خلال العام الماضي وحده، الأمر الذي يُنذر باحتمالات انفجار اجتماعي يصعب السيطرة عليه، مردفًا أن الخيارات المتاحة أمام النظام الإيراني تبدو محدودة للغاية، فمن ناحية، قد يُفضي استمرار الجمود في المفاوضات النووية إلى تعميق الأزمة الاقتصادية وتزايد الاحتقان الشعبي، ما يُمهّد الطريق أمام اندلاع احتجاجات واسعة النطاق قد تتجاوز في حجمها وتأثيرها موجة الاحتجاجات السابقة، ومن ناحية أخرى، فإن انخراط النظام في تصعيد داخلي عبر تصفية الحسابات بين الأجنحة المختلفة قد يُؤدي إلى تفكك داخلي يُضعف تماسكه وقدرته على إدارة الأزمات.
ونبّه العتوم من أن النظام الإيراني قد يبقى عالقًا بين خيارين كلاهما مر، فإما تقديم تنازلات جوهرية في المفاوضات النووية بما ينطوي عليه ذلك من تداعيات على هيبته الداخلية، أو مواجهة سيناريو الانفجار الداخلي الذي قد يُطيح بمرتكزاته في المديين المتوسط والبعيد.

