التخلي عن حدود الـ67... وتحويل فلسطين إلى "أقفاص جغرافية"

{title}
أخبار الأردن -

 

قال الصحفي المتخصص في الشؤون الأمريكية عبد الرحمن يوسف إن هناك هدفًا دوليًا مُشرعَنًا في إطار القضية الفلسطينية، يتمثل في التخلي الممنهج والمتعمد عن حدود الرابع من يونيو / حزيران 1967، التي تُعدّ مرتكزًا مرجعيًا لا غنى عنه لأي سلوك سياسي أو تفاوضي يدور ضمن هذه الرقعة الجغرافية، كما أنها تمثل المدخل القانوني الدولي الأهم لمساءلة إسرائيل ومحاسبة المستوطنين استناداً إلى القرارات الأممية والشرعية الدولية.

وأوضح الصحفي المقيم في واشنطن في تصريحٍ خاص لصحيفة "أخبار الأردن" أن لا شيء يُضفي المشروعية على المقاومة أو يُبررها سوى كون هذه الأرض محتلة وفق نصوص القانون الدولي، ولا جريمة تُلصق بالاستيطان إلا لكونه عدوانًا صارخًا على أرض ليست ملكًا لهؤلاء الوافدين الذين لا ينتمون وجدانيًا ولا تاريخيًا لهذه البقعة، مشيرًا إلى أن انحياز الدول الصغيرة ومساندتها للقضية الفلسطينية لا ينبثق إلا من موقف مبدئي يتأسس على معارضة الاستعمار ومناهضة الاحتلال، انسجامًا مع قرارات الشرعية الدولية والمرجعيات القانونية التي حددت بدقة معالم وحدود هذه الأرض.

وبيّن يوسف أن ما يُجرّم قانونيًا مشاريع التهجير القسري وإفراغ الأرض من سكانها الأصليين هو الارتباط التاريخي والوجودي بين هذه الأرض وأهلها الذين عمرّوها لقرون، ولهذا السبب، حرصت إسرائيل منذ نشأتها على عدم رسم حدود نهائية وثابتة لدولتها، في محاولة ممنهجة لإبقاء الأمر عائمًا، يُمكن توظيفه وفق مصالحها التوسعية، وعلى الرغم من قبولها – شكليًا – بوجود "فلسطينيين"، فإنها ترفض الاعتراف المطلق بفلسطين ككيان جغرافي وسياسي مستقل، إذ يرتكز جوهر السردية الصهيونية على إنكار الكيان الوطني الفلسطيني مع الإقرار بوجود سكان يحملون هويته.

وذكر أن فكرة إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة على حدود الرابع من يونيو/حزيران 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، ظلّت تشكل المحور الجوهري في الخطاب العربي الرسمي والموقف الفلسطيني في جميع المحافل السياسية والدبلوماسية والقانونية، إلى درجة أن المبادرة العربية الشهيرة، التي طُرحت في قمة بيروت عام 2002، قامت على مبدأ التطبيع الشامل والكامل مع إسرائيل، شريطة انسحابها إلى هذه الحدود والالتزام بهذه المعايير.

بيد أن إسرائيل قابلت هذه المبادرة بالرفض المطلق، مما أبقى قضايا الحدود والقدس الشرقية وحق العودة في خانة قضايا الوضع النهائي، التي شكّلت دائماً محاور التفاوض والمساومة في أي عملية سياسية.

ولفت يوسف الانتباه إلى أن هذه القضايا المركزية بدأت تفقد تدريجيًا فاعليتها العملية وثقلها السياسي، في ظل تراجع الدعم الدولي الفاعل وانحسار الزخم القانوني المرتبط بالقرارات الأممية، رغم أن أكثر من 124 دولة طالبت إسرائيل رسميًا بالانسحاب إلى حدود 1967، وما فاقم هذا التراجع هو الانخراط المتسارع لبعض الدول العربية في موجة تطبيع غير مشروطة، تُقدّم وعودًا فضفاضة باستئناف محاولات حل القضية دون أي التزام حقيقي بجوهر الحل ذاته.

وأشار إلى أن أبرز الدلائل على هذا التآكل، كان غياب أي موقف عربي عملي وفاعل يُظهر الغضب أو الاعتراض الجاد على قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وهو القرار الذي لم يُلغِه الرئيس السابق جو بايدن، ليكشف هذا الصمت المطبق عن تراجع الأهمية الاستراتيجية لموضوع القدس والحدود في الخطاب الرسمي العربي، حتى بات يُنظر إليه وكأنه لم يعد ضمن قضايا الوضع النهائي التي كانت في السابق تُعد ركائز لا يمكن تجاوزها في أي تسوية سياسية.

حتى في المبادرات السياسية، كمبادرة القاهرة التي نشرتها وسائل إعلام رسمية وشبه رسمية، غاب التحديد الدقيق والواضح لمعالم الدولة الفلسطينية، ما يفتح الباب أمام تأويلات تُضعف الموقف العربي في هذا التوقيت الحساس، وفقًا لما قاله يوسف.

ونوّه إلى أن خطر التهجير القسري – على فداحته – ليس هو التهديد الأكثر إلحاحًا، وإنما قد يكون مجرد ورقة ضغط لتحقيق أهداف أكثر خطورة، من بينها فرض تسوية على غرار خطة جاريد كوشنر، تُحوّل الفلسطينيين إلى مجرد سكان في كيانات مجزأة تفتقد السيادة، تتوزع على كانتونات معزولة ومساحات جغرافية متفرقة، منزوعة السلاح والقرار، مشيرًا إلى أن هذه الكيانات، إن شُرعنت، ستُحول الفلسطينيين إلى عمالة رخيصة، محصورة في أقفاص جغرافية، لا يُسمح لها سوى بممارسة الحد الأدنى من الحقوق الأساسية المرتبطة بالبقاء البيولوجي، لخدمة مشاريع استثمارية ضخمة، ما يُضفي بُعداً إنسانياً زائفاً على تسوية تُبقي على جوهر المشروع الاستعماري الإمبريالي.

وقال يوسف إن الإصرار الإسرائيلي يتجلى في استبعاد السلطة الفلسطينية من أي ترتيبات مستقبلية، رغم تقاربها الكبير مع الولايات المتحدة وتماهِيها في كثير من القضايا السياسية مع سلطات الاحتلال، إذ تسعى إسرائيل، عبر هذا التوجه، إلى تفكيك الروابط بين الضفة الغربية وقطاع غزة، مع استدعاء قوى إقليمية ودولية لمواجهة فصائل المقاومة وتحميلها تبعات الدمار الإنساني والكارثي الذي خلفته الحرب.

وذكر إن تثبيت الفلسطينيين على أرضهم، عبر اتخاذ تدابير إنسانية وإدارية تُعزز صمودهم وتُوفر لهم مقومات الحياة الكريمة، بالتوازي مع خطاب سياسي يُصر على تمكين الفلسطينيين من إدارة شؤونهم بأنفسهم ضمن حدود الرابع من يونيو/حزيران 1967، وجعل القدس الشرقية عاصمة لدولتهم المستقبلية، مع رفض أي تدخل أمني خارجي في هذه الأراضي، والاستناد إلى الشرعية الدولية وقراراتها المتراكمة، هو السبيل الأنجع لإفشال المخططات التي تستهدف تصفية القضية الفلسطينية.

وحذر يوسف من أي تراجع عن هذه الثوابت والمبادئ سيُفتح الباب على مصراعيه للتشكيك في النوايا وطرح أسئلة صعبة تحتاج إلى إجابات صريحة وواضحة، بعيدًا عن الاتهامات المُعلبة بالتخوين، ذلك أن تصفية القضايا الكبرى لا تتم إلا عبر تضليل مُحكم وتلاعب مُمنهج بالمصطلحات، في ظل تغييب الإجابات عن الأسئلة الجوهرية المرتبطة بالواقع، وهو ما أصبح جلياً في الخطاب السياسي العربي الراهن.

تابعونا على جوجل نيوز
البحر المتوسط لإدارة المواقع الإخبارية الالكترونية