كيف يُنظر للقضية الفلسطينية الآن؟... الرواشدة يجيب "أخبار الأردن"
قال مؤسس مجلة المراسل للصحافة البحثية من واشنطن الصحفي عماد الرواشدة إن الخطاب السياسي الغالب في معظم الدول العربية، يتسم عند مقاربته للقضية الفلسطينية، وتحديدًا ملف غزة، بانكفاءٍ قُطريٍّ ضيّق؛ إذ تُقارب كل دولة هذا الملف من منظور مصالحها الوطنية المباشرة، بمعزلٍ عن مقاربةٍ استراتيجية تتخذ من فلسطين، بوصفها قضية تحرر وطني عربي تحت الاحتلال، محورًا لتلك المصالح.
وأوضح في تصريحٍ خاص لصحيفة "أخبار الأردن" الإلكترونية أن هذه المقاربة تُنتج، في صيغتها النهائية، خطابًا سياسيًا تسويغيًا، تسعى الدول العربية من خلاله إلى تبرير مواقفها أمام شعوبها، على نحوٍ يُغَلِّب المصلحة القُطْرِيّة على ما سواها، فالحُجّةُ المهيمنة التي تُسوّق على نطاقٍ واسع، إقليميًا ودوليًا، تُختزَل في مقولةٍ تكاد تكون لازمةً في الأدبيات السياسية الراهنة، وهي أن خطة ترامب تُهدد أمن دولنا واستقرارها، وقد بات هذا المنطق يتردد على ألسنة غالبية الكتّاب العرب، ممن يختزلون الموقف برفض ما يُسمى "تصفية القضية على حسابنا".
وبيّن الرواشدة إن كان هذا المنحى، في سياق قراءة كل حالة عربية على انفراد، يبدو منطقيًا، باعتبار أن أيًا من هذه الدول لا تملك منفردةً القدرة على الاضطلاع بعبء حماية القضية الفلسطينية بكامل أبعادها، إلا أن الصورة الكلية، عند قراءتها بمنطق العمل العربي المشترك، تكشف عن افتقارٍ بنيوي لأي استراتيجية شاملة.
ونوّه إلى أن تعاطي البعض مع القضية الفلسطينية، لم يعد محكومًا – كما كان في عقودٍ مضت – بدوافع قومية، أو اعتبارات أمن قومي عربي مشترك، بل باتت المسألة برمتها تخضع لمنطق "إدارة المخاطر"، وفق ما يخدم استقرار كل نظام سياسي على حدة، وهكذا، غدت فلسطين، في المخيال السياسي الرسمي العربي، عبئًا ينبغي تفاديه، أكثر منها قضية وجودية تستدعي استنفار أدوات الفعل الاستراتيجي.
واستطرد الرواشدة قائلًا إن الركون إلى هذا النهج القُطري، وإن بدا مُريحًا لبعض الأنظمة في المدى المنظور، ينطوي على مخاطر جسيمة في المدى الاستراتيجي الأبعد، ذلك أن المشهد الجيوسياسي المحيط بالقضية الفلسطينية لم يعد محكومًا بثنائية الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي فحسب؛ وإنما أضحى امتدادًا لمعادلة إقليمية ودولية تتداخل فيها مشاريع هيمنة ذات طابع توسعي.
ولفت الانتباه إلى أن اليمين الإسرائيلي الحاكم، المُتّكئ على حاضنة أيديولوجية دينية توراتية، يجد حليفه الطبيعي في التيار الإنجيلي الصهيوني داخل الولايات المتحدة، وهو تيارٌ يشترك معه في نزعاته التوسعية المستندة إلى قراءات لاهوتية ترى في فلسطين نقطة ارتكاز لمشروع "إسرائيل الكبرى"، ويكتسب هذا التحالف مزيدًا من الزخم السياسي في ظل صعود اليمين الشعبوي في أوروبا، الذي يتقاطع – رغم اختلاف منطلقاته – مع المشروع الصهيوني في عدائه للآخر، وفي تطلعه لإعادة صياغة الخرائط الوطنية وفق منطق الهيمنة العرقية والدينية.
وفي هذا السياق، يصبح الافتراض القائل بأن "التوسع الإسرائيلي سيتوقف عند حدود فلسطين" رهانًا واهيًا، لا يستقيم مع منطق التحولات الدولية، فالنظام العالمي الراهن يشهد انزياحاتٍ تنذر بالعودة إلى أنماط الهيمنة الاستعمارية الكلاسيكية التي سادت القرن التاسع عشر، إذ رأينا روسيا تتجاوز حدود الردع التقليدي، فتجتاح جورجيا، ثم تغزو أوكرانيا، وتقضم أجزاءً من أراضيها في مشهدٍ يُعيد للأذهان وقائع تقاسم النفوذ الاستعماري، وفي المقابل، تتنامى في الولايات المتحدة أصواتٌ يمينية لا تتورع عن التلويح بضم كندا، وغرينلاند، وحتى بنما، إلى الجغرافيا الأمريكية، استنادًا إلى منطق القوة العظمى، وفقًا لما صرّح به الرواشدة لصحيفة "أخبار الأردن" الإلكترونية.
وذكر أنه في ظل هذه العودة إلى سياسات الضم والاحتلال المباشر، يُطرح السؤال بإلحاح: ما الذي يمنع إسرائيل، وقد أرسَت وقائع احتلالها في فلسطين، من أن تتطلع إلى ما هو أبعد؟ لا سيما أنها سعت – في معرض تبريرها للجرائم المرتكبة في غزة – إلى استدعاء الذاكرة الاستعمارية الأمريكية، عبر تشبيه إبادتها للفلسطينيين بما فعله المستعمرون البيض بحق السكان الأصليين في القارة الأمريكية.
وتابع الرواشدة أن هذا الاستحضار لمرجعيات الإبادة والضم، في معرض الدفاع عن "الحق الإسرائيلي"، يُشكّل مؤشرًا دالًا على طبيعة الرؤية الصهيونية الاستراتيجية، التي تنظر إلى الجغرافيا العربية بوصفها مجالًا حيويًا مفتوحًا، قد يُعاد ترسيمه متى ما تهيأت الظروف.
وتأسيسًا على ما تقدم، فإن الركون إلى افتراض استقرار النظام الإقليمي، بمجرد انتهاء "التسوية" على حساب فلسطين، هو ضربٌ من الوهم، فبنية النظام الدولي نفسه تخضع اليوم لتآكل متسارع، أفضى إلى اهتزاز مفاهيم السيادة، والاستقلال الوطني، والشرعية الدولية.
وفي عالمٍ يستعيد أدوات الضم بالقوة، والانقضاض على الحدود المستقرة، لا شيء يضمن أن تكون فلسطين المحطة الأخيرة في المخيلة التوسعية الإسرائيلية.
وقال الرواشدة إن المنطق الذي يحكم سياسات القوة، يوحي بأن استقرار إسرائيل في فلسطين، قد يكون مقدمةً للانتقال إلى مرحلةٍ جديدة، تُعاد فيها صياغة الخرائط وفق مقتضيات "المجال الحيوي"، مستفيدةً من هشاشة النظام العربي، وغياب الإرادة الجمعية، وانكفاء كل دولة خلف حدودها.
وأكد ما يتحتّم على الدول العربية من إعادة النظر في مقارباتها القُطْرية، والارتقاء بموقفها من القضية الفلسطينية، من مستوى "إدارة المخاطر"، إلى مستوى "صناعة التوازن"، بما يكفل حماية الأمن القومي العربي، قبل أن تجد هذه الدول نفسها – فرادى – أمام جغرافيا جديدة، يُعاد تشكيلها من خارج إرادتها.

