العتوم يتحدث لـ"أخبار الأردن" عن حسابات الأردن ومصر في مواجهة الطرح الأميركي
قال الباحث المتخصص في الشأن السياسي الدكتور نبيل العتوم إن الاستراتيجية الأميركية، لا سيما في عهد إدارة دونالد ترامب، لطالما استندت إلى منطق "الصفقات الكبرى"، إذ تتداخل عوامل القوة الناعمة والضغوط الصلبة في عملية إعادة تشكيل المشهد الجيوسياسي وفق رؤى تتماهى مع المصالح الاستراتيجية لواشنطن وحلفائها الإقليميين.
وأوضح في تصريحٍ خاص لصحيفة "أخبار الأردن" الإلكترونية أن محاولة تمرير مخطط إعادة توطين الفلسطينيين خارج أراضيهم التاريخية لا تنفصل عن نهج يعتمد على توظيف الإغراءات الاقتصادية، والتطمينات الأمنية، والاستحقاقات الدبلوماسية، كوسائل لفرض وقائع سياسية يصعب التراجع عنها لاحقًا، ومن هذا المنطلق، فإن التساؤل الجوهري الذي يفرض نفسه يتمثل في طبيعة الأدوات التي قد تلجأ إليها الإدارة الأميركية لإقناع الأردن ومصر بقبول هذا السيناريو، وحدود المناورة التي يمكن أن تنتهجها الدولتان لمواجهة هذا المخطط الذي ينطوي على تداعيات كارثية تتجاوز الأبعاد الإنسانية إلى الحسابات الاستراتيجية العميقة.
وبيّن العتوم أن الإدارة الأميركية تدرك حجم التعقيدات التي تعترض طريق تنفيذ مخطط بهذا الحجم، فإنها ستعمد على الأرجح إلى تقديم سلسلة من الإغراءات التي تأخذ بعين الاعتبار الهواجس الاقتصادية والأمنية لكل من عمان والقاهرة، فمن الناحية الاقتصادية، قد تلجأ واشنطن إلى توسيع نطاق المساعدات المالية والاستثمارات المباشرة في قطاعات استراتيجية، مثل البنية التحتية والطاقة، باعتبار أن الضغوط المالية التي تواجهها الدولتان قد تجعل هذا النوع من الإغراءات يبدو أكثر جاذبية، لا سيما في ظل التحديات الاقتصادية العالمية الراهنة، أما من الناحية الأمنية، فإن الإدارة الأميركية قد تعرض على الدولتين اتفاقيات أمنية موسعة تشمل تعزيز التعاون العسكري، وتوفير منظومات تسليحية متقدمة، فضلًا عن تقديم ضمانات سياسية تؤكد عدم المساس بمكانتهما الاستراتيجية في المنطقة، وبالإضافة إلى ذلك، فإن واشنطن قد توظف نفوذها داخل المؤسسات المالية الدولية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، لتيسير حصول الدولتين على قروض ميسرة، أو إعادة هيكلة الديون، في محاولة لتخفيف الضغوط الاقتصادية التي قد تُستخدم كورقة مساومة لإعادة تشكيل مواقفهما السياسية.
ورغم أن هذه الإغراءات قد تبدو مغرية من منظور براغماتي، إلا أن الحسابات السياسية والأمنية العميقة لكل من الأردن ومصر تجعل من الانخراط في هذا المخطط أمرًا محفوفًا بالمخاطر الاستراتيجية، فالمسألة هنا لا تتعلق بمجرد قبول أو رفض عرض أميركي، وإنما ترتبط بمستقبل القضية الفلسطينية ككل، وما قد يترتب على هذا المخطط من تداعيات تطال البنية الديمغرافية والسياسية للمنطقة بأسرها، وعليه، فإن خيارات المناورة التي قد تلجأ إليها عمان والقاهرة تتسم بدرجة عالية من التعقيد، حيث يمكن أن تسعى الدولتان إلى تعزيز التحالفات الإقليمية والدولية، من خلال توثيق التنسيق مع قوى إقليمية مثل دول الخليج، والانخراط في تفاهمات أوسع مع الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين، بهدف خلق توازن استراتيجي يحدّ من قدرة واشنطن على فرض أجندتها بصورة أحادية.
وفي موازاة ذلك، نوّه العتوم إلى أن استثمار التناقضات داخل المؤسسة السياسية الأميركية قد يمثل أحد الأدوات الفعالة لمواجهة الضغوط، حيث إن الانقسامات بين البيت الأبيض والكونغرس، والتباينات القائمة بين الجمهوريين والديمقراطيين، قد توفر هامشًا للمناورة يمكن توظيفه لتعطيل أي محاولات لتمرير هذا المخطط، خاصة في ظل المعارضة التي تبديها بعض دوائر صنع القرار الأميركي لأي سياسات من شأنها أن تؤدي إلى زعزعة الاستقرار الإقليمي. وبالإضافة إلى ذلك، فإن إبراز الدور المحوري الذي تلعبه كل من الأردن ومصر في تحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة، سواء فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب، يجعل من الصعب على الإدارة الأميركية تجاوز مواقفهما، لا سيما إذا ما نجحت الدولتان في إظهار أن أي خطوة غير محسوبة قد تؤدي إلى تداعيات تتناقض مع المصالح الأميركية ذاتها.
وعلاوة على ذلك، فإن إبراز التداعيات الكارثية المحتملة لأي محاولة لفرض تهجير قسري للفلسطينيين قد يمثل ورقة ضغط إضافية يمكن توظيفها في مواجهة الضغوط الأميركية، فتنفيذ مثل هذا المخطط يهدد بتفجير موجات جديدة من التطرف، وقد يؤدي أيضًا إلى خلق بيئة غير مستقرة قد تمتد تأثيراتها إلى خارج حدود فلسطين المحتلة، وهو ما يتناقض جوهريًا مع الأهداف التي تسعى إليها الولايات المتحدة في المنطقة، وفي هذا السياق، فإن الأردن ومصر تدركان تمامًا أن القبول بهذا السيناريو لن يكون مجرد تنازل سياسي، بقدر ما سيشكل ضربة استراتيجية قد تؤثر على استقرار الدولتين على المدى البعيد، مما يستوجب تبني مواقف حاسمة ترفض أي محاولات لفرضه كأمر واقع.
وأكد العتوم عدم انحصار المشهد السياسي في معادلة ثنائية تقوم على الاختيار بين القبول بالإغراءات أو مواجهة الضغوط، ذلك أنه يتموضع ضمن إطار أكثر تعقيدًا تتداخل فيه الحسابات الإقليمية والدولية، وتتفاعل فيه المصالح الاقتصادية مع الهواجس الأمنية، وهو ما يجعل من عملية اتخاذ القرار في هذا السياق مسألة تتطلب قدرًا عاليًا من الحنكة السياسية والقدرة على توظيف الأدوات الدبلوماسية والاستراتيجية بأقصى درجات الكفاءة، وإذا كانت الإدارة الأميركية تعتقد أن بإمكانها فرض هذا المخطط باستخدام القوة الاقتصادية والسياسية، فإن تجارب التاريخ تؤكد أن محاولات فرض مشاريع غير عادلة بالقوة لم تكن يومًا ضمانة لتحقيق الاستقرار، وإنما كانت دائمًا مقدمة لتفجير أزمات أشد تعقيدًا يصعب احتواؤها لاحقًا، مشيرًا إلى أن التعامل مع هذا الملف يستوجب تبني استراتيجية شاملة تضمن حماية المصالح الوطنية، مع الحفاظ على ثوابت القضية الفلسطينية كقضية غير قابلة للتصفية بأي شكل من الأشكال.

