كرادشة لـ"أخبار الأردن": متغيرات اجتماعية تطال معايير الاختيار في الزواج
قال أستاذ علم الاجتماع الدكتور منير كرادشة إن الزواج يعد أحد أعرق وأهم النظم الاجتماعية التي أرستها البشرية منذ نشأتها الأولى فهو الإطار المؤسس للعائلة والركيزة التي يقوم عليها البناء المجتمعي بكامل تشكلاته وتجلياته.
وأوضح في تصريحٍ خاص لصحيفة "أخبار الأردن" الإلكترونية أن الزواج يعد استجابة فطرية تفرضها الضرورة البيولوجية والوجدانية للإنسان ما جعله من أكثر النظم الاجتماعية رسوخًا وتأصلًا في نسيج الحضارات الإنسانية المتعاقبة كما أنه يمثل الإطار القانوني والأخلاقي لتنظيم العلاقة بين الذكر والأنثى وفقًا لمقتضيات المنظومة القيمية والثقافية السائدة في كل مجتمع على حدة.
وأكد كرادشة ضرورة أن يبنى الزواج على مرتكزات جوهرية تشمل المودة والرحمة والتفاهم والتكامل بين الشريكين إلا أن هذه الأسس التي ظلت لعقود طويلة راسخة في بنية المجتمع باتت عرضة لتحولات جوهرية نتيجة ما شهده النسيج الاجتماعي من تغيرات متسارعة فرضت إعادة تشكيل القيم والمعايير الناظمة للعلاقات الزوجية، مضيفًا أن تداخل العوامل الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية أعادت هندسة الأولويات فيما يخص اختيار شريك الحياة، حيث شهدت هذه العملية انتقالًا من معايير الاختيار التقليدية التي كانت تقوم في جوهرها على توافق الأسر وتدخل الأهل في اتخاذ القرار إلى منظومة حديثة أكثر استقلالية يهيمن عليها المنظور الفرداني الذي يمنح المرأة هامشا أوسع من الحرية في تقرير مصيرها الزواجي.
وبيّن أن هذه التحولات الجذرية أفضت إلى إعادة صياغة معايير الانتقاء الزواجي فلم تعد المعتقدات والقيم التقليدية الموروثة تشكل المرجعية الحصرية في اتخاذ القرار، فقد حلت مكانها اعتبارات أخرى ترتكز على محددات اقتصادية، واجتماعية، وثقافية تتناسب مع التغيرات البنيوية التي طرأت على المجتمع الأردني، فبعدما كان الزواج ينظر إليه بوصفه عقدًا أسريًا في المقام الأول أصبح اليوم خاضعًا لمنطق الفردية والاختيارات الشخصية التي تستند إلى عوامل متداخلة من أبرزها المستوى التعليمي، والاستقلالية المالية، والمكانة الاجتماعية، والانتماءات الثقافية، ما دفع بالفتيات إلى إعادة النظر في معايير الاختيار وفقا لمعادلات أكثر تعقيداً وتشابكًا من ذي قبل.
وفي هذا السياق لم يعد قرار الزواج مسألة عائلية بحتة كما كان عليه الأمر في السابق بقدر ما أصبح أقرب إلى خيار فردي يخضع لتطلعات المرأة وطموحاتها الشخصية، إذ أصبحت مقاييس الجاذبية، والتوافق الفكري، والتقارب الاجتماعي، والاقتصادي تلعب دورًا محوريًا في بلورة صورة الشريك المثالي، ونتيجة لهذه التغيرات تحولت العلاقة الزوجية من كونها التزامًا تقليديًا تخضع محدداته لإرادة الأهل والمجتمع إلى رابطة تقوم على أسس فردية محكومة بالوعي الذاتي، والتطلعات المستقبلية ما أضفى عليها طابعًا أكثر تعقيدًا وأقل امتثالًا للأنماط الاجتماعية السائدة في العقود الماضية.
وقد شكلت هذه التحولات موضوعا بحثيا محوريا في مجالات علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي نظرا لما تقدمه من رؤى تحليلية معمقة حول أنماط التفكير والسلوك الاجتماعي للمرأة الأردنية في سياق المتغيرات المجتمعية ففهم التحولات في معايير الاختيار الزواجي يتيح إمكانية استشراف مستقبل العلاقات الأسرية والتنبؤ بالتحديات التي قد تواجه الأسر الناشئة سواء من حيث ديناميكية التوافق الزواجي أو طبيعة التوترات المحتملة التي قد تنشأ نتيجة للاختلافات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية بين الأزواج كما أنه يساعد على تقييم مدى قدرة الأفراد على تحقيق توازن بين طموحاتهم الشخصية ومتطلبات الحياة الزوجية في ظل منظومة اجتماعية آخذة في التغير والتطور المستمر.
ونوّه كرادشة إلى أن ما شهده المجتمع الأردني من تحولات بنيوية سواء على صعيد البنية الأسرية، أو الأدوار الجندرية، أو محددات المكانة الاجتماعية أتاح للمرأة قدرًا غير مسبوق من الاستقلالية في اتخاذ قراراتها المصيرية، ومنها قرار الزواج، فلم تعد عملية الاختيار تخضع لتأثير العائلة، والأقارب بالدرجة الأولى، وإنما أصبحت مشروطة بمتغيرات ذاتية ومجتمعية متشابكة تتفاعل فيها المحددات الثقافية مع الواقع الاقتصادي والاجتماعي، في إشارةٍ إلى أن مسألة اختيار شريك الحياة أمام الفتاة الأردنية محكومة بسياقات أكثر تعقيدًا من أي وقت مضى، وبذلك فإن هذا التحول لم يعد انعكاسًا مباشر لإعادة تشكيل منظومة القيم والمفاهيم التي تحكم البنية الأسرية والزوجية في المجتمع الأردني المعاصر.

