أبو خليل يكتب: قدر من الصراحة لا يضر

{title}
أخبار الأردن -

  أحمد أبو خليل

لا أعرف إن كان هناك بلد مثل الأردن، تحظى فيه السياسة الخارجية بمثل هذا الحضور في النقاش الشعبي العام. إن نقاش السياسة الخارجية يتفوق في حدته وشموله وتوتر المشاركين فيه، على نقاش أي شأن داخلي.

هذه ظاهرة عمرها عقود ولا تقتصر على الزمن الحالي. وقد أتاح لي الاهتمام بالأرشيف فرصة الاطلاع السريع على النقاش العام حول الشؤون الخارجية خلال نحو 70 عاما مضت.

خلال العقود الماضية، لو حصل أن استجابت الحكومات في مجال السياسة الخارجية لرغبات التيارات السياسية في الشارع، لوجدنا انفسنا أمام مشهد فكاهي جدا.. وتعالوا نتذكر باختصار:

ففي الخمسينات كان القوى في الشارع تطالب بالتنسيق مع عبدالناصر ومع الاتحاد السوفياتي، ثم أضيفت لمطالب التنسيق كل من سورية والعراق بعد سيطرة التيار القومي فيهما، وخرج الشارع في النصف الأول من عقد الستينات للمطالبة بالالتحاق بمشاريع الوحدة بين مصر وسورية والعراق، ولم تتوقف المطالبات إلا بعد انهيار مشاريع الوحدة تلك. وبعد ذلك ابتداء من مطلع السبعينات أضيف مطلب التنسيق مع منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها رأس حربة النضال حينها، مع التركيز هنا وهناك على فصيل معين منها حسب مقتضى الحال، وعندما كانت المنظمة تتعرض لانشقاقات، كان يتبع ذلك تنوع في مطالبات التنسيق مع فريق دون آخر، كما حصل الأمر ذاته عندما كانت مصر وسورية والعراق تتنازع وتتعارض أو تتوافق فيما بينها.

كان كل تيار سياسي يبدل موقفه من السياسة الخارجية حسب اقترابها أو ابتعادها عن الشريك الخارجي لذلك التيار.

حتى نهاية الثمانينات، لم يكن الإسلاميون يبدون اهتماما واضحا معلنا بالشؤون الخارجية، كانوا يدعمون موقف السلطة ضد عبدالناصر لأنه يعادي الإخوان المسلمين في مصر، ثم وقفوا ضد حكم البعث في سورية عندما شن حملة على إخوانهم هناك، وكانوا ضد الاتحاد السوفياتي بالطبع. وفي موضوع فلسطين والصراع مع العدو، لم يكن الأمر عندهم أولوية، ولهذا لم يكونوا يبدون أي ملاحظة حول السياسة الخارجية الأردنية الرسمية. كان تنظيم الإخوان في الضفة جزءا من تنظيم الأردن، فيما كان تنظيم غزة جزءا من التنظيم المصري، وفي الموقعين لم يكن الإسلاميون جزءا من المقاومة. ليس في هذا ما يعيب، فهذا صراع طويل وتتبدل القوى الفاعلة فيه حكما وتتبدل خياراتها، وهذا دليل على جدية الصراع وعمقه.

في عقد التسعينات كما هو معلوم، حمل التيار الاسلامي راية مقاومة العدو، فيما تراجعت باقي التيارات وأخذت تتلاشى، ولما ترافق ذلك مع الاختلاف بين الحكومة ومنظمة التحرير التي تحولت إلى سلطة، اختارت الحكومة أن تواصل عملها الرسمي مع السلطة الفلسطينية، ولكنها رحبت بحركة حماس التي عاشت في الأردن سنوات ذهبية من العمل العلني وكانت تتصرف بما يشبه التنظيم الداخلي ضمن حركة الإخوان وبرضى الجميع.

تبدل الأمر لاحقا، كحال أي جانب آخر للصراع والحالة السياسية العامة.

لحسن حظ البلد والناس، ان السياسة الخارجية ظلت تدار وتُحدد في أطر ضيقة عليا تستطيع أن تصيغ معادلتها، فقد تضعف حينا وتقوى حينا آخر، وقد تبدو عميقة في زمن ثم ساذجة في زمن آخر، ولكنها بكل الأحوال تبقى ضمن مسؤولية دائرة ضيقة في الحكم، تمكنت عبر الزمن من اشتقاق طريق قاد بالمحصلة إلى نتيجة معقولة على الأقل مقارنة مع خيارات أخرى في بلدان مجاورة ومشابهة لنا. لاحظوا مثلا أن صوت السياسة الخارجية الأردنية لا يزال حاضرا بصورة أفضل من السياسات الخارجية لدول عربية أكبر وأكثر ثراء ونفوذا. لاحظوا مثلا خلال السنة الماضية، نوع ومرونة استجابات السياسة الخارجية لدول مثل مصر والسعودية والجزائر وقطر والإمارات وتركيا والعراق وسورية (سابقا والآن) والسلطة الفلسطينية طبعا.

أدرك وأؤيد فكرة أن الصراع مع هذا العدو ليس شأنا من شؤون السياسة الخارجية، بل هو شأن داخلي وطني بامتياز، ولكن علينا أن ننتبه إلى ضرورة فهم اختلاف مستويات التعاطي الرسمي والشعبي، فليس من المنطقي أن نطالب وزير خارجية بأن يتحدث وكأنه يخطب امام جمهور.

أعرف اننا من اكثر الشعوب تكرارا لعبارة "المصلحة الوطنية العليا"، التي يفترض أن تحكم كل السياسات، ولكن هذه العبارة في الواقع، وبالذات على المستوى الشعبي، لا تحظى بتعريف مشترك أو حتى شبه مشترك. ولهذا فإن إناطة الأمر بالحكم في أعلى مستوياته، كان ولا يزال الخيار الأفضل للبلد وللناس أيضا.

تابعونا على جوجل نيوز
تصميم و تطوير