اليوم التالي في غزة... سيناريوهان أحلاهما مر

قال الكاتب والباحث في الصحافة العبرية الدكتور حيدر البستنجي إن اتفاق وقف إطلاق النار في غزة يشبه بناءً هشًا قائمًا على أرض متحركة، فالنصوص الرسمية التي تُشكل الأساس لهذا الاتفاق تحمل تناقضات واضحة في تفسيرها بين الأطراف المعنية، ما يجعل التنفيذ الفعلي محفوفًا بالمخاطر.
وأوضح في تصريحٍ خاص لصحيفة "أخبار الأردن" الإلكترونية أن هذه التناقضات غير محصورة في البنود المكتوبة فقط، فهي تمتد إلى تفاهمات شفوية جرت خلف الأبواب المغلقة، وهو أمر يضيف تعقيدات إضافية تجعل الاتفاق أشبه بحالة مؤقتة تتطلب مراقبة دقيقة.
ومع ذلك، يبقى مفتاح استمرار الهدنة بسيطًا: غياب أي خرق عسكري مباشر، فالأطراف تدرك أن تكلفة التصعيد في هذه المرحلة باهظة. إسرائيل، من جهتها، تسعى لتجنب أن تكون المبادر بخرق الاتفاق لأنها بحاجة للحفاظ على دعم دولي محدود، بينما تبدو حماس واعية تمامًا أن أي تصعيد سيؤدي إلى نتائج كارثية قد لا تبقي شيئًا من القطاع، لا عمرانيًا ولا بشريًا، وفقًا لما صرّح به البستنجي.
الهدنة: استمرارية مشروطة
ولفت الانتباه إلى أن الاتجاه العام يشير إلى رغبة إقليمية ودولية في استمرار الهدنة رغم هشاشة الاتفاق وتعثر العديد من ملفات المفاوضات، مضيفًا أن أغلب الدول والمنظمات الإنسانية بدأت تتعامل مع غزة بناءً على فرضية أن الهدوء الحالي سيستمر، لكن هذه الفرضية ليست مطلقة، إذ إن استمرارها يعتمد على التزام حماس بتجنب أي خطوات تصعيدية، والخطر الحقيقي على الهدنة ليس في التعثر السياسي، وإنما في خرق عسكري مباشر قد يُفسر من إسرائيل كذريعة لإطلاق العنان لآلة الحرب من جديد.
وذكر البستنجي أن إسرائيل، وفق تكتيكها المعروف، لن تكون البادئة بخرق الهدنة، لكنها في ذات الوقت مستعدة للرد بقسوة حال حدوث أي اختراق من حماس، وهذا التوازن القائم على الردع المتبادل يجعل الهدنة خيارًا عمليًا للطرفين، لكنه لا يلغي احتمالات الانفجار إذا تغيرت الحسابات.
حكم حماس: بين الضغوط الدولية والخيار الشعبي
ونوّه إلى واحدة من أهم المسائل الجوهرية التي ستحدد مستقبل غزة، وهي مسألة بقاء حماس في الحكم، والاتفاق الأخير يتضمن مسارًا سياسيًا يبدأ بالتدريج منذ المراحل الأولى لتنفيذه، ويهدف إلى إضعاف قبضة حماس على السلطة في القطاع، فبعض البنود، مثل بند معالجة الجرحى العسكريين ومرافقيهم، يُفسر كخطوة لإخراج قيادات بارزة من المشهد.
من الناحية الإسرائيلية، لم يعد وجود حماس في الحكم خيارًا مقبولًا، حتى ولو كانت ضعيفة ومشتتة، ذلك أن فلسفة إسرائيل تجاه هذا الأمر واضحة: استمرار حكم حماس يردم حفرة الانقسام الفلسطيني الذي كانت إسرائيل تستفيد منه في الماضي.
إعادة إعمار غزة: شروط صارمة وأفق محدود
واستطرد البستنجي قائلًا إن إعادة إعمار غزة ستكون محكومة بشروط صارمة ورقابة دولية غير مسبوقة، وأي مساعدات دولية ستخضع لتفتيش وتدقيق لضمان عدم وصولها إلى يد حماس، سواء للاستخدام العسكري أو لتعزيز سيطرتها السياسية، كما أن المعابر الحدودية، وعلى رأسها معبر رفح، ستكون تحت سيطرة السلطة الفلسطينية وبإشراف أوروبي لضمان عدم تسرب المواد المحظورة، وإذا استمرت حماس في الحكم، فسيُترك لها عبء إعادة الإعمار بمفردها دون أي دعم دولي حقيقي، مضيفًا أن الرسالة واضحة هنا: إذا أرادت حماس البقاء، فعليها أن تواجه غضب الشعب الذي لن يقبل بالبقاء في ظل هذا الخراب المستمر.
سيناريوهات المستقبل: التغيير الحتمي أم المواجهة المؤجلة؟
ولفت الانتباه إلى أن هناك سيناريوهان محتملان لمستقبل غزة في ظل الاتفاق الحالي. السيناريو الأول يتمثل في تراجع تدريجي لحماس عن المشهد السياسي، إما بضغط شعبي داخلي أو نتيجة تسويات دولية تفرض عليها الخروج من دائرة السلطة. هذا السيناريو قد يتيح للقطاع فرصة لإعادة البناء والاستقرار، لكنه سيواجه تحديات كبيرة مرتبطة بتوحيد الصف الفلسطيني ومعالجة آثار الانقسام الطويل.
أما السيناريو الثاني، فيتعلق بإصرار حماس على البقاء في الحكم مهما كانت التكاليف. في هذه الحالة، سيُترك القطاع في حالة من الدمار المزمن، مع استمرار الحصار والضربات الإسرائيلية الموجهة بدقة. هذا الخيار سيؤدي إلى عزلة أكبر لغزة، وقد يجعلها عبئاً ثقيلاً على من تبقى من سكانها وعلى الحركة نفسها.
ترامب وغزة: بين المصالح الاقتصادية والمشاريع الإقليمية
وقال البستنجي إن رؤية الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب لغزة حملت أبعادًا اقتصادية واضحة، ففي نظره، غزة ليست سوى فرصة استثمارية يمكن استغلالها ضمن مشاريع كبرى تهدف إلى إعادة تشكيل المنطقة سياسيًا، واقتصاديًا، وثقافيًا. المشاريع الاقتصادية المطروحة، سواء في غزة أو في محيطها، تُظهر الرغبة الأمريكية في فرض نمط جديد من العلاقات الإقليمية يقوم على المصالح التجارية والتكامل الاقتصادي، لكن هذا التوجه يواجه عقبات كبيرة مرتبطة بالأوضاع السياسية غير المستقرة.
واختتم حديثه بالقول إن المرحلة القادمة ستكون حاسمة لمستقبل غزة، فبقاء حماس في الحكم يعني استمرار الوضع الراهن بكل أعبائه الكارثية، بينما خروجها قد يفتح المجال لإعادة تشكيل المشهد الفلسطيني ككل، وفي النهاية، تبقى غزة رهينة لتوازنات إقليمية ودولية قد لا تنحاز دائماً لمصالح سكانها.