هل كان فرويد مُحقاً ؟

{title}
أخبار الأردن -

 

وليد عبد الحي

في بداية االسبعينات من القرن الماضي بدأ اهتمامي الجارف بعلم النفس السياسي واصبح فرويد سيدي ومولاي لكن تنظيما سريا تغلغل في منظومتي المعرفية في نهاية ذلك العقد وانقلب على علم النفس السياسي

فأصبحت من ضمن خلايا الدراسات المستقبلية التي وأدت التنظيم الفرويدي ، وما أن وصلت الى فيينا  في احد رحلاتي قبل حوالي العقد من الزمن،حتى استيقظ الحنين للتنظيم الفرويدي في داخلي ،فتوجهت الى بيت فرويد الذي تحول الى متحف فيه كل ما يخص فرويد من كتب او مقالات او مراسلات او أثاث او أفلام  وأقمت فيه

لساعات ، واكتشفت خلال هذه الساعات الكثير مما اضاء لي بعض الالتباسات في نظرياته، ونتيجة هذا الانفصام في شخصيتي بين علم النفس السياسي وبين الدراسات المستقبلية قررت عقد قرانهما في داخلي، وحضر عقد القران لفيف من منظري العلاقات الدولية والاستراتيجية ، ومنذ تلك اللحظة تعيش اسرتي المعرفية في وئام ويشد بعضها بعضا.

ما استوقفني في فرويد محاولاته لتحديد المتغير المهيمن في السلوك الانساني ، هل هو العقل الظاهر الممنهج والمتسلح بأدوات وتقنيات التحليل المنطقي المترابط (الفكر الواعي) ام العقل الباطن(اللاوعي) الذي يتصارع فيه وبقسوة كبيرة وخداع لا حدود له ثلاثة تنظيمات :الأنا (Ego) والأنا العليا(Super Ego) والهو(Id)(فالاول هو العقل والثاني هو الضمير والثالث هو الرغبة)، وانتهى فرويد الى تغليب العقل الباطن على كل ما تبقى، اي ان قسما وازنا من السلوك يحركه العقل الباطن أكثر مما يحركه العقل الظاهر او الواعي.

اما الدراسات المستقبلية ، فهزني آينشتاين في عبارته الشهيرة التي قالها لمن سأله لماذا تهتم بالمستقبل فقال" لأني ذاهب الى هناك"، فهل هناك مسافر لا يسأل عن المكان الذي هو متجه له قبل وصوله؟ لكن وبكل امانة أصابني الدوار وما يشبه الخلل النفسي عندما غرقت في مناهج الدراسات المستقبلية وتقنياتها وتتبعت تطورها من مراحل السحر والكهانة والعرافة والقيافة الى مرحلة الخطط الخمسية والعشرية للاتحاد السوفييتي وصولا للنماذج الرياضية والمصفوفات والدورات الاقتصادية وانماط القياس وقياس التغير والتكيف ومعادلات ريتشاردسون وكوندراتيف وصولا لتوفلر وغالتنغ وغير ذلك الكثير.

وإذا كان العقل الواعي يخطئ ، وهو ما جربته بنفسي، فانك تدرك موضع الخطأ وتتعلم منه ،وهو ما يساعد على تحسين منهج تفكيرك من خلال خبرة الوقوع في الخطأ وفهم اسباب الوقوع فيه، لكن المعاناة الحقيقية هي في تسلل اللاوعي(العقل الباطن ) الى الظاهرة ودفعك للتفكير فيها بكيفية لا تدرك أنت أن هناك من يضللك  من داخلك ، فحرب الأنا والأنا العليا والرغبة تثير غبارا يعميك عن رؤية الطريق، فتظن انك تقيم تحليلا علميا ، لكنك

تكتشف أحيانا أن " مكبوتا" قابعا في كهف العقل الباطن ينتفض ليأخذك في طريق اشباعه ، ويعصف بكل مناهج بحثك العقلاني ، وأتذكر انني اجريت استطلاع راي في عام 1979 على المجتمع المصري وموقفه من

المعاهدة مع اسرائيل ، فتبين أن 62% منهم يؤيدون السادات في خطوته، فلم تعجبني النتيجة، فبدأت باعادة صياغة الاسئلة بطريقة ايحائية تجعل نسبة التاييد اقل، وهنا صفعني شيخ الطريقة فرويد وقال لي"  لقد بدأت رحلة التحايل" ، فأطعت شيخي وحملت رغبة تغيير النتيجة الى خزان المكبوت في عقلي الباطن، ولكني متأكد انها تسللت من زاوية أخرى وافسدت علي استنتاجاتي في بحث آخر لكني لا اعرف ما هو.

ما يجري في الوطن العربي لا يمكن أدراك اعماقه ولا اتجاهاته المستقبلية إلا  بتطويق العقل الباطن بل وفضحه دون اي خجل، ففي داخلي فلاح واستاذ جامعي وذَكَرٌ وعربي واسلامي وعلماني ومحلي ومعولم وفيروز واحمد عدوية والمعري وفرويد وماركس وابن خلدون...وفي داخلي سيقان وعيون وقدود يسكنون جميعا في داخلي

وبجوارهم ابن الفارض والشنفرى ورابعة العدوية ونيتشة وابن الراوندي، في داخلي قبور وقصور، وتلال وفيافي..، فمن ينظم هذا الجمع؟

انظروا لما يُكتب من تحليلات حول سوريا او غزة او السودان أو اية مصيبة عربية، كم نسبة التحليل الغرائزي فيه، كم منا حاول ان يضبط " الهو الفرويدي" ، لو يطلع العرب على دراسة رون شليفر(Ron Schleifer) (الحرب النفسية في اسرائيل ودور الاعلام)وهو أحد ابرز علماء النفس الاسرائيليين ، سيكتشف وزن فهم وادراك  "اللاوعي العربي في تحديد كيفية التسلل الى الشخصية العربية والتلاعب فيها. 

فقبل ان تكتب إسأل نفسك: كم نسبة "الهوى" فيما تكتب؟ ثم أجب عن السؤال الثاني: هل لك ان تحدد سبب ضيق صدرك ممن يعارض رايك؟ هل هو الخطأ العلمي ام "تربية الاستبداد فينا"؟ ما نسبة البعد المستقبلي في تفكيرك السياسي والاجتماعي والاقتصادي والعلمي ...الخ؟

أخيرا عندما قرأت المراسلات المتبادلة بين فرويد وآينشتاين تعلمت معنى العلم والتعلم..لذلك اتسلح دائما ب " ربما ".

تابعونا على جوجل نيوز
تصميم و تطوير