عادي.. عن سورية.
أحمد أبو خليل
خلال الأيام الأخيرة وحتى الآن، تسيطر علي مشاعر قد تبدو غريبة، لست سعيدا بالطبع، ولكني لست حزينا بعمق ولا غاضبا بتوتر.
ربما لعب انشغالي الدائم (كما أزعم) بالمجتمع والتاريخ الاجتماعي والأرشيف والسياسة من أسفل، دورا في تحقيق قدر من الهدوء. بل إني خلال الأيام الماضية واليوم، كنت أبحث عن المفارقات في المشاهد المبثوثة، بما وفر لي قدرا من الفكاهة أحيانا.
هذا الصباح اتصلت بصديق مقرب جدا، كان قد تعرض للسجن في سورية (ظلما نقيا)، متضمنا ما نعرفه عن السجون هناك، ودعوته ممازحا: "سامحهم.. سامحهم"، فرد علي ضاحكا: "لا والله مني مسامح... سجنني وسكتت وانسيت، لكن مش هيك". كان صديقي مثلي من أنصار سورية الدولة والجيش والشعب.. (والنظام كي لا يزعل أحد).
كالعادة، كلماتي التالية غير معنية بما يدور عند مستوى صنع القرار والدول والأجهزة المسيطرة في السياسة والعسكر.... إن هذا يتطلب توفر مصادر عليا للمعلومات أو على الأقل معرفة بقضايا الاستراتيجيات الكونية أو الإقليمية، وهو ما لا أدعي حيازته أبدا.
كلامي فقط عند المستوى الشعبي الاجتماعي السوري.
تتراوح الحاجة للكرامة عند البشر، أفرادا وجماعات، بين مجالين: الأول، ما يتصل بحياتهم اليومية بتفاصيلها المختلفة، أي بالكرامة الشخصية، والثاني ما يتعلق بالأمة والدولة التي ينتمون إليها، أي ما يتصل بالكرامة الوطنية الكلية، ويتضمن ذلك حضور دولتهم وسيادتها وموقفها من اعدائها وتمكنها من قول لا ونعم وفق مقتضيات سيادتها.
إن حصول خلل بين هذين المجالين يقود إلى المأزق الذي عاشه السوريون طيلة عقود، سبقت فترة الأسد ولكنها تجلت في عهد الأسد الأب والابن. وهو مأزق عاشته شعوب أخرى منها شعوب دول الاتحاد السوفييتي سابقا وعاشه الشعب العراقي والمصري بِمستويات متنوعة.
بالنسبة لنا خارج سورية، كنا نسعد ونحن نرى الدولة التي لم توقّع صلحا ولم تطبع ولم ترضخ للأمريكي والاسرائيلي، وكنا عن حق نرى ذلك مهما، ولكن في الأثناء كنا لا ننتبه إلى زاوية نظر السوري نفسه الذي يعيش على المستوى اليومي مستويات عميقة من مس الكرامة، ولا يمكنه الاكتفاء بشعور الكرامة الكلي، حتى لو شعر بذلك فعلا.
كنت قبل سنوات قد أمضيت عدة أيام في مخيم الزعتري أجريت فيها عشرات المقابلات المعمقة مع مواطنين، جميعهم يكرهون النظام بتفاوت، وقد تمكنت من الاستماع لآراء عميقة تعكس الموقف الشعبي. كانت كل المقابلات تتضمن مسألة الكرامة. (مع ملاحظة أن منهج المقابلات يشترط أن لا أخوض نقاشا حول موقف من أقابله، أو أخطئه... الخ. بالعكس أقمت علاقات محترمة وكنت ممتنا لكرمهم في الوقت والمعلومات، وفي صينية "أذان الشايب" (تشبه الششبرك) التي عزموني عليها في اليوم الأخير).
خلال السنوات القلية الماضية منذ أن استتبت الأمور لمصلحة السلطة، كنت دائم السؤال والتقصي عن الدرس الذي استفاده الحكم مما جرى، وللأسف فإن كل ما سمعته كان يقول إن المنحى الرئيسي عند الحكم عنوانه العودة الى النقطة التي وقف عندها مع بداية الأحداث، بل هناك من كان يقول إن الحكم تمادى أكثر.
المؤلم أن توزيع أعباء الحرب ومعاناة الحصار كانت متحيزة بطريقة ظالمة جدا. فالثراء الفاحش كان من نصيب مجموعة تلتف حول مركز الحكم، مقابل المعاناة حد الجوع عند الغالبية بمن فيهم أسر من قدم التضحيات.
أذكر في سنة 2012 كتبت أمنيتي أن يشعر الحكم بألم "لي الذراع" ويتعلم الدرس في تعامله الداخلي. وحينها كنا نتوقع أن الأحداث ستمر سريعا.
اليوم قد يخسر السوريون شعورهم بالانتماء لدولة كبيرة، وقد تتأثر كرامة بلدهم الكلية، ولكن بالمقابل قد يأمل قسم منهم بنقلة على مستوى الحياة الشخصية واليومية والمجتمعية. هذا محكوم بالمستقبل.
لغاية الآن، رغم سلمية و"برتقالية" اسقاط النظام، لا يمكن الثقة بمسارات ذلك. صحيح أن الشكل العام يوحي بأن معارضي النظام استفادوا من التجربة أكثر من النظام نفسه، ولكن لا يمكن الوثوق بصدق التغير، ببساطة لأن من يديره ويتحكم به من أعلى، هي أطراف لا تحمل الخير للسوريين ودولتهم، يشمل ذلك الاسرائيلي والأمريكي والتركي والإيراني والروسي، فهذه الثلاث الأخيرة دول تطمح كل منها بحصة من الجسد السوري.
الحياة ستستمر بالتأكيد، والسوريون شعب خرافي في مجال الكدح وبذل الجهد والابتكار، إن تجربة مخيم الزعتري كان تشبه عمليه إنشاء دولة ومجتمع من جديد. ولكن أيضا نعرف أن السوريين شعب تهمه كرامته العامة وكرامة دولته، كان هذا قبل الأسد ومن المرجح انه سيستمر بعده. مثل هذا النوع من المواصفات العميقة للشخصية الوطنية يستمر ويصعب محوه.
هنا قد يسأل قارئ متابع: لماذا يا أخي لم تكن تذكر ذلك في حينه؟
من المؤكد أنني بعون الله سأجيب على ذلك مستقبلا. الآن سيكون الأمر مملاً.
لننتبه كثيرا إلى السوريين الشعب. نتمنى أن يعود من هم بيننا منهم إلى وطنهم، لكن علينا ان لا ننسى أثرهم بيننا، فقد رسموا ملمحا جميلا في حياتنا.