من الأردن إلى أمريكا: دروب الهجرة الطويلة
عمار الشقيري
مؤخرًا، استدلّ آلاف المهاجرين الأردنيين على الدرب الذي ظلّ المهاجرون من أمريكا الجنوبيّة إلى أمريكا الشمالية يسلكونه منذ عشرات السنوات، منضمين لمئات آلاف العابرين من جنوب الكرة الأرضية إلى شمالها، قاطعين نهر الريو غراندي الشهير الذي يفصل المكسيك عن الولايات المتحدة.
يتركون قراهم في إربد وعجلون ويقطعون ثلاث قارات، وسبع دول، راكبين جميع وسائل المواصلات التي تخطر في البال؛ من طائرات وحافلات وسيّارات مكيّفة وقوارب سريعة وتكاتك وبكبات بشوادر وبغال ودراجات نارية. أو بالطريقة الأكثر قدمًا، المشي لعشر ساعات. وهذا كلّه مطاق للشباب الراغبين بالهجرة. الأهم هنا هو تدبّر مبلغ يتراوح بين سبعة آلاف و11 ألف دينار للوصول إلى المحطة الأخيرة في الولايات المتحدة.
في محاولة فهم دوافع الشباب للهجرة بهذه الطريقة، وما يمرّون به في الطريق، وأحوالهم في الولايات المتحدة، أخذنا قرية كفر أسد في لواء الوسطية في إربد نموذجًا في البداية؛ إذ يقال هناك إنها إلى جوار قرى قم وقميم شهدت هجرة قرابة 350 شخصًا.
في الحقيقة، وبعد عدة زيارات ومقابلات، لم تكن أعداد المهاجرين من هذه القرى غير شيء يسير مقابل عدد من هاجروا من قرية واحدة في عجلون مثل عنجرة، حيث تشير أكثر تقديرات أهالي القرية تحفّظًا إلى أن عددهم بالمئات، وربما وصل العدد إلى الألف، من أصل 31 ألف نسمة يسكنونها، عدد الذكور منهم يزيد قليلًا عن 16 ألفًا.
تعود أبعد تقديرات الناس في الأردن إلى أن الهجرة بدأت في شهر تشرين الثاني من العام 2023؛ أي بعد ستة أشهر من قرار الرئيس الأمريكي جو بايدن السماح لمن دخلوا الولايات المتحدة عبر التهريب بتقديم طلبات لجوء وإقامة لحين بتّ محكمة الهجرة في طلباتهم. وكان هذا الباب قد أغلقه منذ آذار 2020 الرئيس السابق دونالد ترامب بحجة الحد من انتشار فيروس كورونا مستعينًا بالمادة 42 من قانون الصحة العامّة.
خلال السنوات الثلاث هذه، حمي وطيس الجدل القانوني والحقوقيّ بين الديمقراطيين والجمهوريين ومنظمات حقوق الإنسان وخبراء الصحة العامّة حول منع تقديم طلبات اللجوء أو السماح بها.
لم يُعنَ شباب القرى الأردنية بكلّ هذا الجدل التاريخي الممتد في الولايات المتحدة. ما عناهم مسألة بسيطة، وهي أن «الطريق لأمريكا فاتحة والشباب مضغوطة».
على سفح جبل في عجلون، لم يكن صعبًا على أهل عنجرة ملاحظة الأعداد الكبيرة التي هاجرت من القرية؛ إذ قلّت أعداد الشباب أمام الدكاكين، وقلّت كذلك تجمعاتهم عند مفترقات الطرق التي كانوا يسهرون عندها حتّى ساعات الفجر الأولى. يعدّ زياد،* وهو شاب من القرية، عدد من هاجروا من أبناء عائلته القريبة: «ولاد أختي اثنين، خالي وابن خالي، ابن عمي، ابن عمي الثاني، ابن ابن عمتي، من خوالي ثلاث، أنا لزمتي [أقاربي اللزم] 12-13 واحد» هاجروا.
مشهد عام لقرية عنجرة. تصوير مؤمن ملكاوي.
وزياد نفسه واحد من من هؤلاء المهاجرين. بدأ رحلته نهاية كانون الثاني من هذا العام.
– ليش هاجرت؟
– «بدي أعيش، عمري 30 سنة، كنت مفكّر [أعيش هناك] خمس سنين».
لكنه عاد بعد أربعين يومًا من وصوله إلى أمريكا.
قبل هجرته للولايات المتحدة، شرح له صديق هاجرَ قبله طريقة التهريب وتكلفتها، فوجد فيها فرصة للخلاص من دوّامة العمل في ضمان بيّارات الحمضيّات والخسارات في بيعها في السوق، فلملمَ المبلغ في أقلّ من 48 ساعة، وسافر إلى تركيا، المحطة الأولى في الرحلة.
لا يعرف المهاجرون في هذه الطريق الكثير من المعلومات الرسميّة حول تفاصيل الرحلة وإجراءات العبور بين الدول، وإنما يعتمدون على معلومات من سبقوهم في الوصول إلى أمريكا أو من هم في الطريق؛ من أين تبدأ الرحلة، وتفاصيل حجز التذاكر، وأي وسطاء المهربين أضمن وأسرع، وطريقة التعامل معهم، وكم المبلغ الذي يجب حمله، وطول الطريق وخطورتها، والدول التي يمرون بها. وهذا ما حصل مع فيصل ابن عمّ زياد.
لم يفكر فيصل مرتين حين عرف بطريق الهجرة هذه، بعدما استنفد كل خيارات العمل في الأردن؛ تخرّج من تخصص هندسة الميكانيك ولم يحصل على وظيفة، ظنّ أن المشكلة في تخصصه فعاود ودرس الرياضيات ولم يحصل على وظيفة كذلك. عمل في ضمان بيارات الحمضيات وبيع المحصول في السوق دون فائدة.
أمام فيصل في البيت ثلاثة أخوة جامعيين عاطلين عن العمل، اثنان تخرّجا منذ قرابة عشرين سنة، وآخر يُكمل دراساته العليا. عرفَ أن وجوده في الأردن سيفضي إلى مصير إخوانه، فاتخذ قراره: «قلنا خلص، الواحد بده يغامر»، لكنّه كان بحاجة لحلّ معضلتين بداية؛ تدبّر المبلغ، وإقناع الأهل.
لأسبوع، رفضت العائلة سفره، الأب يتخيّل طريقًا تنتشر فيها العصابات وتجّار الأعضاء البشريّة، والأخوة يُحاولون معه ويوسّطون آخرين لإقناعه. لكن الحلّ أتى اخيرًا، يقول شقيقه: «لما تواصلنا مع الناس الماشية بالمسار، و[منهم] المحترم هاظ [زياد] صار في راحة أكثر».
اقترضت العائلة المبلغ من أكثر من شخص، وبدأ فيصل الرحلة مسترشدًا بمقاطع الفيديو التي كان زياد يبعثها له وهو في طريقه في أمريكا الوسطى. أمّا الأب، فجافاه النوم لأسبوع، يمشي حول البيت، ويتصل بين الحين الآخر بابنه للاطمئنان عليه.
بين ثلاث قارّات
بالعادة، تبدأ التجهيزات في الأردن بالتواصل مع سماسرة المهربيّن على أرقام هواتف في الإكوادور وكولومبيا واسكتلندا وبريطانيا. أرقامهم موجودة مع أعضاء مجموعات تهتم بالهجرة على تطبيقات على تيليجرام وواتساب وفيسبوك.
تكون مهمة السمسار التنسيق بين الشباب المهاجرين في الأردن ومجموعات التهريب في أمريكا الوسطى. لا يتحدث السمامرة كثيرًا، يجيب واحدٌ منهم على سؤال حبر حول كيفية ترتيب الرحلة: «بس تشتري التذكرة ابعتها، وأنا ببعث جماعتي تنتظرك في مطار نيكاراجوا لاستقبالك وإكمال الطريق».
كانت الرحلات في البداية تبدأ بشقّها القانوني بالسفر من مطار الملكة علياء بالأردن إلى إسطنبول في تركيا ثم السفر إلى نيكاراغوا.
بعد وصوله تركيا، بعث فيصل صورة جواز سفره وصورة له إلى السمسار، وطار في رحلة من 14 ساعة إلى كولومبيا. ومن هناك طارت إلى بنما في رحلة من ساعتين. ثم استقل طائرة أخرى إلى مطار ماناغوا في نيكاراغوا؛ الدولة الوحيدة في أمريكا الوسطى التي تمنح عند الوصول فيزا لمدة 30 يومًا للكثير من الجنسيّات ومنها الأردنية، لقاء 160 دولارًا.
منذ سنوات، تحوّلت نيكاراغوا إلى نقطة انطلاق المهاجرين القاصدين الولايات المتحدّة من آسيا وإفريقيا ودول شرق أوروبا. ثمة تحليلات تشير إلى أن سياسة نيكاراغوا هذه تأتي في محاولة منها لمواجهة خسائر قطاعها السياحي بعد فرض الولايات المتحدة عقوبات اقتصادية عليها بسبب مسألة تدفق المهاجرين من أراضيها.
عند الوصول إلى نيكاراغوا، يتعرف كل سمسار على المهاجر الذي سيخرج معه عن طريق صورة الجواز وصورته الشخصية. دفع فيصل 300 دولار للسمسار من أجل البدء بالرحلة شمالًا. قبل مغادرته الفندق الذي أمضى فيه ليلة واحدةً، عاين فيصل وصول طائرة فيها قرابة 35 شخصًا من قريتيْ عنجرة وكفرنجة في عجلون.
تحرّك مع مئات المهاجرين من جنسيات مختلفة، كان في الرحلة 32 عربيًا؛ ستة مصريين، وثلاثة فلسطينيين، والباقي أردنيّون، ضمن قوافل حافلات تسير بسرعات عالية لأكثر من 150 كيلومترًا حتى الوصول إلى الحدود مع هندوراس.
قبل الدخول إلى هندوراس، يستلم المهرّبون المهاجرين ويوزعونهم على عدة وسائل نقل أقل لفتًا للانتباه من الحافلات. يسيرون ما بين ساعة إلى ساعتين بعيدًا عن نقاط تفتيش الشرطة، وتدور بهم سيارات بيك أب أو تكاتك في طرق فرعيّة بين الأحياء ومن داخل المقابر وخلف الأدغال. أو حتى يمشون على الأقدام. خلال هذه الفترة القصيرة شاهد فيصل المهربين المسلحين ببنادق رشاشة، وكان يفكّر بحكايات السلب والقتل التي سمعها.
بالعادة يحمل المهاجرون أموالهم في مخابئ سريّة في الأحذية أو في حقائب السفر الخفيفة، وفي حال نفدت نقودهم فإنهم يطلبون من الأهل تحويل مبالغ لهم من الأردن. وفي كل مرحلة من مراحل الرحلة يطلب السمسار الدفع للمهربين مبالغ تتراوح بين 150-300 دولار. ويفتّش المهربون المهاجرين في بعض الأحيان ليتأكدوا من وجود النقود معهم، وهذا ما حصل مع فيصل، «لازم يلاقي معي مصاري، إذا ما معك هون بيصير عليك خطورة».
عاودت المجموعة الصعود إلى الحافلات مرة أخرى حين تجاوزت الحدود داخل الأراضي الهندوراسيّة، وسافرت لقرابة 300 كيلومتر.
يتحدث الشباب في عنجرة عن مهاجر من القرية نفدت منه الدولارات في هذه المنطقة، وتأخرت الحوالة من الأردن. لم ينتظر المهربون، وضعوا السكين على رقبته لذبحه لولا أن خلّصه شاب ضمن المجموعة ودفع المبلغ عنه.
بعد الانتهاء من الهندوراس، تجاوزت المجموعة الحدود الغواتيمالية. هناك سافروا لـ300 كيلومتر بالحافلات مرّة أخرى، وصولًا إلى حدود غواتيمالا والمكسيك حيث تتكرر عملية صعودهم في وسائل نقل أخرى مثل الدراجات والسيارات الصغيرة والمشي مرة أخرى. وبين كل حدود دولة وأخرى، كان المهرّبون يتغيّرون، ويضطرّ المهاجرون للمبيت لليلةٍ أو أكثر في انتظار تأمين الطريق أو وصول وسيلة المواصلات.
خلال الطريق بين الغابات بين حدود غواتيمالا والمكسيك تحرّكوا مشيًا على الأقدام وحولهم أفراد العصابات المسلحين يقودونهم إلى أماكن لم يروها من قبل، ولا لغة تواصل معهم حيث يتبادلون التعليمات بالإشارات. لازمَ الخوف من السلب فيصل، لكنه ظلّ يُحاول تجاهله حين ينظر خلفه ويتذكر سنوات البطالة في الأردن.
يقطع المهاجرون الحدود الغواتيماليّة إلى مدينة تاباشولا المكسيكية، ومن هناك -بحسب عدة شهادات مهاجرين قابلناهم- طريقان على الأقل، تعتمدان على نفوذ جماعة التهريب، واحدة من تاباشولا بالسيّارات إلى الشرق حيث مدينة كانكون، وهو الخيار الأكثر تكلفةً وسهولة، وأخرى من تاباشولا إلى مكسيكو سيتي عبر البحر والسيّارات، وهو الخيار الأكثر خطورةً.
تاريخيًا، تنشط مجموعات مهربي المهاجرين على طول الطريق إلى الولايات المتحدة عبر دول أمريكا الوسطى، مثل هندوراس وغواتيمالا والمكسيك. ومع أنها تعمل بشكل مستقل إلا أنها تتعاون مع عصابات عابرة للحدود بحيث يدفع المهربون الرسوم لهذه العصابات لقاء العبور ضمن مناطق نفوذها، ويمكن أن يؤدي عدم دفع هذه الرسوم إلى قتل المهرب أو المهاجرين أو اختطافهم.[1]
في عدة حالات قابلناها، كان بال الشاب المهاجر مشغولًا خلال عبوره هذه الطريق بمكانين؛ القرية حيث التواصل مع الأهل والأصدقاء لطمأنتهم على رحلته وتصوير أجزاء من الطريق، وأمريكا حيث تبدأ اتصالات البحث عن سكن وعمل قبل الدخول إليها.
خلال سفر فيصل بالقارب من تابشولا لساعتين ونصف تقريبًا إلى مدينة أوهاكو، ثم برًا لعدة ساعات إلى مدينة بيوبلا ثم إلى العاصمة المكسيكية مكسيكو سيتي، كان قد رتب أمور العمل في الولايات المتحدة مع مهاجرين سبقوه.
سواء في كانكون أو مكسيكو سيتي، يبيت المهاجرون عدة أيام داخل فنادق أو مزارع خاصّة بحسب خدمات السمسار. تأخر فيصل خمسة أيّام في البداية لأن السمسار أخبرهم أن بركانًا يعطّل حركة الطائرات، ثم تأخر مرة أخرى لعدة أيّام في انتظار أن يؤمّن له المهربون الطريق والأوراق بسبب أعداد المهاجرين الكبيرة.
في أيام الانتظار هذه يدفع المهاجرون للمهربين الدفعة الأكبر من تكلفة الرحلة، وتتراوح بين 2500- 5000 دولار، وينتظرون تأمين أوراقهم ليكون عبورُهم قانونيًا داخل أراضي المكسيك حيث تمنح السُلطات لهم إذنًا ليعبروا أراضيها، وهكذا يتمكنون من الصعود إلى الطائرة بشكل قانوني في رحلة من أربع ساعات إلى المحطة الأخيرة في المكسيك في تيخوانا الحدودية مع أمريكا، مع آلاف المهاجرين من جنسيات كثيرة.
في تيخوانا عبرَ فيصل مع مجموعة من خمسين شخصًا يقودهم مهرّب جديد أرضًا مفتوحة، ثم نهرًا صغيرًا، وصعدوا ظهر تلّة داخل الأراضي الأمريكيّة، ومشوا ثلاث ساعات ونصف منتظرين أن تجدهم دوريات الهجرة التي تجوب المنطقة الحدوديّة، ليُنقلوا إلى مراكز إيواء ويأخذوا منهم معلوماتهم؛ بصمة اليدين والعين، ومكان الإقامة، وسبب طلب اللجوء. وهنا انتظر فيصل مع الآلاف ليوم كامل تقريبًا.
في هذه المرحلة ينتظر الكل تحديد موعد جلسة المحكمة التي ستنظر في طلب لجوئه وتتراوح المدة بين عدة أشهر وثلاث سنوات. قالت المحكمة لفيصل إنها ستنظر في طلب لجوئه بعد سنة.
استذكر فيصل 34 يومًا قضاها في الطريق ما بين عنجرة والولايات المتحدة، والمبالغ التي دفعها، وفراق أهله، وقلّب كوابيس الاحتمالات في رأسه؛ أن تنتهي هذه الهجرة بعدم الموافقة على طلب اللجوء بعد أن تنتهي مدة السنة التي منحته إياها محكمة الهجرة. حينها فكّر بكل أسف: «لو الأمور أفضل شوي داخل الأردن أعتقد ما تستاهل تغامر».
موظفون برواتب تتآكل
داخل مقهى في عجلون، جلستُ أنا وزميلي المصوّر مع أربعة أشخاص من عنجرة، متقاعدان وعشرينيان. يفكر ثلاثة من الأربعة الجالسين بالهجرة إلى أمريكا بطرق مختلفة إما بتقديم طلب للسفارة الأمريكية في الأردن أو تهريبًا.
كان أحد المتقاعدين يتركنا لفترات قصيرة للاتصال بابن أخيه في واحدة من دول أمريكا الوسطى في الطريق إلى أمريكا، ثم يعود ليستأنف حديثه عن وضعه كواحدٍ من المتقاعدين يستلم راتبًا من 350 دينارٍ شهريًا لا يكفيه لبقيّة الشهر، ورغم أنه قد وصل الخمسين من العمر إلّا أنه يفكّر بالهجرة كذلك، «الواحد يطمح لمعيشة أفضل، الحياة ما توقف على سنّ الخمسين».
لم تقتصر الهجرة من عنجرة على المتعطلين عن العمل، إذ كان ضمن قوائم المهاجرين متقاعدون من وظائف حكوميّة وموظفو قطاع خاص وموظفون حكوميون كان منهم سلامة.*
تخرّج سلامة من الجامعة بتخصص علم النفس قبل عشر سنوات تقريبًا، واشتغل عاملًا في عدّة مطاعم ومحلات ألبسة، ثم سائقًا على سيّارة تعمل على تطبيقات التوصيل في عمان اشتراها له شقيقه الموظف بالأقساط. بعد كورونا تراجعَ دخله من العمل على التطبيقات مع أنه كان يعمل لـ12 ساعة في اليوم. ظنّ أن وضعه تحسّن حين عيّن معلمًا في وزارة التربية والتعليم، لكن السيّارة هرمت وصار لها راتب من راتبه الذي لا يكفيه أصلًا.
ينظر سلامة حوله؛ أب متقاعد براتب متواضع، أخوة متزوجون ما بين متعطّل عن العمل وعامل ركن سيارات براتبٍ متدنٍ، وآخر موظف حكوميّ. الرواتب تتآكل، وحياة كلّها ديون حول ديون. بنظرة بسيطة قدّر الثلاثيني أن بقاءه موظفًا بهذا الراتب سيُدخِله عالم الدين بقيّة عمره إن قرّر الزواج أو بناء بيت. لهذا أراد قطع إرث الرواتب المتواضعة في العائلة ودوّامة الديون وقال في نفسه: «بعمّان غربة وأمريكا غربة». فباع سيّارته واستدان وهاجر صبيحة أول أيّام العيد عبر بريطانيا.
كانت السلطات الأمريكية قد أصدرت عدة تنبيهات لشركات الطيران ومشغلي الرحلات الجوية ووكلاء السفر ومقدمي الخدمات التي تعمل على تسيير رحلات جوية تفضي إلى دول تَسهُل الهجرة غير الشرعية مثل نيكاراغوا. لم يعد من السهل حجز رحلات من تركيا إلى نيكاراغوا، ومع نهايات شهر شباط حين أتاحت بريطانيا تصريح السفر الإلكتروني ETA للأردنيين مخففة بذلك شروط دخولهم إليها، اتجه المهاجرون إليها للسفر منها إلى نيكاراغوا.
من بريطانيا بالطائرة إلى مطار كولومبيا ثم إلى بنما ثم نيكاراغوا، ثم إلى الشمال بالسيّارات مع مجموعة فيها 22 شخصًا منهم شابان من عنجرة، سلامة* وابن عمه، بالإضافة إلى عائلتين من الأغوار؛ أمّان وبناتهنّ وأخوال البنات.
دخلت المجموعة الهندوراس وأمضت الليلة في مزرعةٍ، ثم تحرّكت صباحًا باتجاه غواتيمالا مسافرين عبر أراضيها لـ16 ساعةٍ تنقلوا خلالها بالحافلات ثلاث مرات مع ثلاث مجموعات تهريب مختلفة حتى وصلوا إلى الأراضي المكسيكية.
قطعت المجموعة نهرًا بالقارب لعدة دقائق وأكملت برًا إلى مدينة كانكون حيث أقاموا فيها ليلتين في مزرعة انتهت بدفع 4500 دولار عن كل فرد ثم اتجهوا بالطائرة إلى تيخوانا قاطعين الحدود مشيًا لأربع ساعات قبل أن تعثر عليهم دوريّة الحدود. مُنِح سلامة موعدًا لمحكمة الهجرة بعد ثلاث سنوات وسبعة أشهر.
يمضي بعض المهاجرين قرابة 19 يومًا بالطريق من نيكاراغوا إلى أمريكا، وتصل المدة أكثر من أربعين يومًا لدى البعض، إذ تعتمد سهولة الطريق وصعوبتها على تكاليف السمسار ونفوذ جماعات التهريب التي يعمل معها، وعلاقتها مع كارتيلات التهريب العابرة للحدود.
يتنافس سماسرة المهربين بين بعضهم. وتتنافس كذلك مكاتب سياحة محلية ترتب حجز تذاكر السفر والإقامة في فنادق بريطانيا ونيكاراغوا، وبعضها تقوم دعايته على أنه يقدّم خدمات V.I.P للعملاء. لكن ومع تزايد الراغبين بالهجرة عبر هذه الطريق والذين لا يملكون المبلغ الكافي انخفضت التكلفة الكليّة لبعض الرحلات إلى سبعة آلاف دينار شاملة تذاكر السفر وحصة المهربين، بحسب عدة مقابلات مع مكاتب سياحية وسماسرة تهريب قابلناهم.
قد تلجأ بعض المكاتب بغرض خفض التكلفة إلى حجز تذاكر سفر ذهابًا إلى بريطانيا، ومن دون تذكرة إياب، أو حجز فنادق وهمية، الأمر الذي جعل الأمن البريطاني يحقق مع بعض المسافرين الأردنيين أو يُرجعهم إلى الأردن. مع ارتفاع أعداد الراغبين بالهجرة ممن لا يملكون المال الكافي هناك بعض الحالات التي تسافر إلى بريطانيا ومن ثم نيكاراغوا ومن هناك يحاولون الوصول الى أقرب نقطة ممكنة من المكسيك ثم يتواصلون مع سماسرة المهربين لتقليل التكلفة.
عادة ما تكون هذه الطريق أكثر خطورة. تنقّلَ شاب من قرية حبكا في إربد مشيًا عبر الغابات وبالدراجات وعلى البغال، نام في أفنية البيوت. يصف واحدةً من مراحل الطريق بالقول «طلعونا 19 واحد بسيارة جيمس فوق بعض. الشباب اختنقت وصارت تصيح، واحد طلع [راسه] طخوه بإجره، بدك تمشي معاهم زي ما بدهم. سلاحهم جنبهم».
خلال مقابلتنا له، نادى المتقاعد الذي تحدثنا إليه على عامل عشريني، كان قد أنهى دراسته الثانوية منذ سنوات ولم يكمل تعليمه الجامعيّ لعدم توفر تكاليف الدراسة قائلًا:
– «تعال يا شبّ. بدك تسافر؟
– والله لو صحّلي من الصبح».
وفاة «الحلم الأمريكي»
سافر سلامة إلى نيويورك عند عمّه الذي يقيم فيها منذ عشرات السنوات، وبدأ العمل معه في مجال العقارات. ووصل فيصل إلى شيكاغو عند ابن عمّه زياد الذي كان أحد أصدقائه قد استقبله. عمل فيصل بعد خمسة أيام من وصوله في أحد المطاعم، فيما عمل زياد داخل محل جزارة ثم عاملًا في مزرعة ماشية. يقول إن القادمين من الأردن تفاجأوا أن جميع المهاجرين يعثرون على عمل.
يشكّل العمال المهاجرون أكثر من نصف العمالة المستأجرة في قطاع الزراعة. كما يعملون في قطاعات أخرى مثل تشييد المباني، ويميل أصحاب العمل لتوظيفهم في هذه الأعمال التي تتطلب جهدًا بدنيًا عاليًا، لأنهم يرضون بأجورٍ لا يقبل بها العمال الأمريكيون.
تفاجأ زياد بتكلفة الحياة المرتفعة وأجور السكن المرتفعة والمصاريف اليوميّة؛ «أوّل ما تفوت إنت مظلوم، ما إلك أي استحقاق، لا ضمان ولا تأمين صحي ولا تصريح عمل. الشغل بنخّخ جمل. فيش واحد وصل هناك وفكر إنه أمريكا زي ما وصلته صورتها». وقبل أن يمضي على وجوده أربعين يومًا، ترك زياد العمل وأمريكا وعاد إلى الأردن مخلفًا وراءه أحلام العمل وتوفير مبلغ يمكنه من الزواج. فيما بقي سلامة وفيصل هناك.
في المقهى، نهاية الجلسة، يستغرب أحد الجالسين معارضة هجرة شباب القرية إلى أمريكا ولو بالتهريب ما داموا قد وجدوا عملًا بدل بقائهم بلا عمل في الأردن، بالإضافة إلى أنهم سينعشون الوضع المادي لعائلاتهم في القرية: «بالله تخلّي الناس تطلع وتنبسط، إحنا معطينهم عطوة لشهر اثنين يصيروا يودوا مصاري».
قبل أيّام أصدر الرئيس الأمريكي أمرًا تنفيذيًا يقضي بترحيل طالبي اللجوء القادمين عبر الحدود مع المكسيك في حال زاد عددهم اليومي عن 2500 شخصًا. وهو رقم كان عدد طالبي اللجوء يتجاوزه بشكل يومي منذ 2021 على الأقل. هنا أعلنت مكاتب سياحة محلية، عبر مجموعات واتس اب وتليجرام تديرها وقف رحلاتها إلى نيكاراغوا، وأعلن شاب عبر واحدة من تلك المجموعات أنه كان يتجهز للهجرة لكنه الآن أجل سفره إلى حين اتضاح الصورة أكثر، فيما قال آخر إنه يبحث عن دولة أخرى يصل لها في أمريكا الجنوبية غير نيكاراغوا ليبدأ رحلته منها إلى الولايات المتحدة على أمل أن يكون واحدًا ممن سيسمح لهم بتقديم طلب اللجوء.