حاجة "الجمهورية الإسلامية" إلى العراق

خيرالله خيرالله

بين أخطر التطورات التي تشهدها المنطقة، في ضوء الحروب الموازية التي تشنها “الجمهوريّة الإسلاميّة” على هامش حرب غزّة، الجهود المبذولة للإمساك نهائيا بالعراق. لا يمكن لإيران قبول فكرة إفلات العراق منها بعدما تسلمته من الولايات المتحدة على صحن من فضّة في العام 2003.

من هذا المنطلق، نجد توريطا لميليشيات عراقية في حرب غزّة كما لو أن صواريخ تطلق من العراق في اتجاه إسرائيل ستقدّم أو تؤخّر. سبق للراحل صدّام حسين أن أطلق مثل هذه الصواريخ في العام 1990، إبان الاحتلال العراقي للكويت. لم يؤد ذلك إلى أي نتيجة. يكرّر النظام الجديد في العراق تجربة فاشلة، لكن مع هدف واضح يتمثّل في إثبات أن العراق صار تابعا لإيران.

المهمّ في الموضوع تكريس واقع أن العراق ورقة إيرانيّة لا أكثر. ما هو أهمّ من ذلك، أن مسؤولين إيرانيين، على رأسهم إسماعيل قاآني قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري”، يبذلون حاليا جهودا لتعويم حكومة محمّد شياع السوداني، خصوصا لجهة طي صفحة إحدى أكبر الفضائح منذ قيام النظام الجديد في العراق، نظام الميليشيات المذهبيّة، مباشرة بعد الاحتلال الأميركي وسقوط نظام صدّام حسين. الفضيحة الكبرى هي فضيحة التنصت على الناس والدخول في قضاياهم الخاصة. يبدو أن رئيس الحكومة الحالية ليس بعيدا عن هذه الفضيحة التي ترى إيران أن المطلوب لفلفتها تفاديا لسقوط حكومة موالية لها، بل تتجه إلى المزيد من الموالاة والتبعيّة لـ“الجمهوريّة الإسلاميّة”.

لا يقتصر الأمر على فضيحة التنصت التي يسعى قاآني، بمباركة المرشد” علي خامنئي، إلى خنقها. هناك فضيحة مالية أخرى يصل حجمها إلى 22 مليار دولار، تعمل إيران على تغطيتها، وهي فضيحة حاولت حكومة محمّد شياع السوداني إلصاقها بحكومة مصطفى الكاظمي، لكنها فشلت في ذلك.

اللافت هذه الأيام التركيز الإيراني على العراق. الأكيد أن هذا التركيز ليس وليد البارحة. كان العراق عقدة مؤسس “الجمهوريّة الإسلاميّة” آية الله الخميني الذي لم يخف يوما، منذ 1979، الرغبة في السيطرة على العراق تحت شعار “تصدير الثورة” متسببا بحرب استمرت ثماني سنوات أنهكت البلدين الجارين وشكلت تهديدا لكلّ دول الخليج العربي.

من لديه أدنى شكّ في زيادة الضغوط الإيرانيّة على العراق، وهي ضغوط تتخذ أشكالا مختلفة، يستطيع التفكير مليّا في أبعاد الزيارة الأخيرة التي قام بها لبغداد ثم لأربيل الرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان والتأمّل في معنى الزيارة. اختار بزشكيان، الذي يمثّل في الوقت الحاضر القوة الناعمة الإيرانيّة، العراق ليكون البلد الأوّل الذي يزوره منذ وصوله إلى الرئاسة خلفا لإبراهيم رئيسي الذي قتل في حادث تحطّم غامض لهليكوبتر كانت تقله إلى طهران من زيارة لمنطقة حدودية مع أذربيجان.

يثير الانتباه في زيارة بزشكيان لأربيل سعيه إلى ترطيب الأجواء مع القيادة الكرديّة. يلعب الرئيس الإيراني الجديد دوره في إطار واسع للسياسة الإيرانيّة يصبّ في ممارسة لعبتي التشدّد والمرونة في الوقت ذاته. التشدّد بواسطة الميليشيات المذهبيّة التابعة لإيران في المنطقة والمرونة من خلال رئيس للجمهوريّة يتودّد إلى الأكراد ويحكي لغتهم… كما لا يخفي رغبة في الانفتاح على الولايات المتحدة التي لا تزال، بين حين وآخر، “الشيطان الأكبر”!

في مرحلة جديدة تمرّ بها المنطقة في مرحلة مخاض، تكتشف “الجمهوريّة الإسلاميّة” أنّ متغيرات كثيرة ستحصل، خصوصا في ضوء الضربات التي تلقاها “حزب الله” في لبنان والحوثيون في اليمن. ليس الحزب سوى لواء في “الحرس الثوري” الإيراني قرّرت إسرائيل، بتواطؤ مع الإدارة الأميركية إضعافه إلى حد كبير. تدرك إيران قبل غيرها أنّ إسرائيل تخوض في لبنان حربا ناتجة عن شعور بأنّها تمرّ بأزمة وجوديّة. لا تستطيع “الجمهوريّة الإسلاميّة” عمل الكثير لإنقاذ الحزب الذي لا يستطيع الذهاب بعيدا في مواجهة الوحش الإسرائيلي. أكثر من ذلك، بدأت إيران تكتشف مدى هشاشة وجودها في سوريا حيث يعمل بشّار الأسد بنصيحة التظاهر بأنه شخص ميت. صحيح أن النظام السوري مقيّد إيرانيا، بل مطوّق، لكنّ الصحيح أيضا أن لديه شعورا بأن عليه تمييز نفسه عن “حزب الله” الذي كان أمينه العام حسن نصرالله في مرحلة معيّنة، موضع إعجاب لدى بشّار ومصدر إلهام له.

تشير التغييرات المتوقعة على الصعيد الإقليمي إلى زيادة القناعة الإيرانيّة بأن العراق يبقى الجائزة الكبرى بالنسبة إلى “الجمهوريّة الإسلاميّة” وخط الدفاع الأوّل عن النظام. من العراق، كانت نقطة الانطلاقة الثانية الكبيرة للمشروع التوسعي الإيراني في العام 2003. سمح وضع اليد على العراق عام 2003 بزيادة السيطرة الإيرانية على سوريا وملء الفراغ الناجم عن الانسحاب العسكري والأمني السوري من لبنان. فضلا عن ذلك، في ظلّ تبسيط أميركي حتى لا نقول غباء أميركيا في التعاطي مع الوضع اليمني، زادت “الجمهوريّة الإسلاميّة” نفوذها في هذا البلد وبات لها موطئ قدم ثابت، هو بمثابة قاعدة عسكريّة، في شبه الجزيرة العربيّة…

تفكّر إيران في مرحلة ما بعد حرب غزّة. تعرف قبل غيرها أنّ مصدر قوتها المتجددة هو العراق. هذا ما يفسّر كلّ هذه الجهود التي تبذلها طهران لتثبيت وجودها في العراق وربط بغداد بطهران.

في اعتقاد إيران، أن المنطقة مقبلة على إعادة تشكيل في ظلّ مؤتمر دولي يضع كلّ دولة في حجمها الحقيقي. إيران من دون العراق لا تعود لاعبا إقليميا أساسيا. لا يمكن الاستخفاف بأهمّية إيران كإيران، لكنّ طموحات “الجمهوريّة الإسلاميّة” تتجاوز حدودها. لذلك، ثمة حاجة إلى العراق وإلى بقائه تحت الوصاية الإيرانية. ليس في الوقت الحاضر أفضل من الحكومة العراقية القائمة للعب هذا الدور، الذي يعني بين ما يعنيه، فشل كلّ الجهود التي بذلت في الماضي من أجل إيجاد علاقة عراقيّة متوازنة مع دول المنطقة. بين دول الخليج العربي من جهة وبين “الجمهوريّة الإسلاميّة” من جهة أخرى تحديدا.