التوثيق مخرج العرب الوحيد من أزماتهم بعيدا عن التباكي والتباهي وإثارة الأحقاد

  

تشترك أغلب البلدان العربية في تاريخها العريق وتراثها الزاخر على امتداد قرون، ولكنها تشترك أيضا في الرؤية القاصرة للماضي، الذي يقع ضحية التلاعب والتزييف والتقديس وغيرها من المظاهر التي تجعله مهددا بالمحو والاختفاء، ويعود هذا أساسا إلى خلل في التوثيق.

يقول أستاذنا المؤرخ عبدالعزيز الدوري “لقد رحنا ندرس التاريخ أحيانا ونكتبه كما يوافق أهواءنا، ويدغدغ عواطفنا، لنذهب مزهوين بما وصلنا إليه في فترة ماضية، وبدل أن نحلل وندقق لنفهم، نحاول أن ننتقي من الروايات ما يناسب، بل ونقرأ النصوص ونكسبها المعنى الذي نريد لا الذي تحمله، وحين نواجه الأزمات نتساءل، كما تساءل مؤرخ فرنسي بعد سقوط باريس: هل خاننا التاريخ؟”

من أفجع جوانب المأساة العربية في مجال كتابة التاريخ هو طغيان المغالطات وألوان الدجل والكذب والافتراء والتجني على التاريخ في معظم محاولات تشخيص أحوال وأفكار وممارسات الشعوب والحكام والتعامل مع الأحداث بنسيان أسبابها الحقيقية البعيدة والقريبة، والبحث دائما عن الشماعة التي سيتم تعليق الوهن والضعف عليها بغض النظر عن مصداقية هذه الطروحات.

أهمية التوثيق

ترسيخ مفاهيم نشر المعرفة والمحافظة على الإرث التاريخي والحضاري من خلال التوثيق الحقيقي والمعياري هما مصدر إلهام لإعادة النظر فيما كتب وروج وأصبح المحتكم العقلي له والخلفية الحاكمة في العقل الباطن الجمعي العربي من خلال منظومة النقل السمعي دون الارتكان إلى التثبت العقلي والإدراك المعرفي لما يرد من المعلومات.

هناك رأي يقول إن الوثيقة هي نصف الحقيقة، دلالة على أهمية التوثيق في مجالات الحياة، إن التوثيق هو أقرب نقطة إلى الحقيقة، حيث يعتبر التوثيق من أهم أدوات القوة الذكية اليوم من خلال دوره في تقديم المعرفة وحماية الهوية والحفاظ على منجزات الإنسان، وكطريقة نحو العبور للمستقبل واتخاذ القرارات وإدارة الأزمات من خلال امتلاك قواعد للمعلومات وفهم الإرث والأشياء المشتركة بين البشر، وتحقيق التوازن بين الحقوق والواجبات وتقدير جهد الأفراد بحجمها الحقيقي.

فأمة بلا توثيق أمة بلا معرفة وبلا هوية، ومن هنا تأتي أهمية إنشاء قواعد البيانات التوثيقية لتقديم الإنجازات من خلال عناصر: كيف ولماذا وأين، كنموذج معرفي للتوثيق. فالمعرفة تؤدي إلى الإدراك ثم الوعي.

وقديما قال أرسطو: “المقدرة على نقل المعلومات هي علامة على التفوق”، فالتوثيق ليس عملا مخزنيا ولابد أن نذهب للتحليل والاستفادة من المعرفة وألا يكون الأمر مجرد عبث وتكديس مخازن من الأوراق والمخطوطات والعلوم.

فالذي يقود العالم هو المعرفة وليس المعلومات، ولابد أن تتحول المعلومات إلى معرفة توثيقية فامتلاك المعلومات لا يعني امتلاك المعرفة والعالم يرزح تحت وطأة مسلمات خاطئة ويجب إعادة ضبط البوصلة فيما يخص هذه المسلمات، التي يكون علاجها من خلال التوثيق الجيد، ويصبح التحدي الحقيقي هو في أنسنة علم التوثيق وجعله أسلوب حياة لكل إنسان في حماية الهوية والمنجزات الإنسانية.

من يملك القدرة على توثيق معلوماته هو الذي يملك القدرة على حماية هويته ومنجزاته ومستقبله. هذا أحد أهم مخرجات التوثيق التي عملت عليها لمدة ثلاثين عاما. فالتوثيق هو السلاح الحقيقي الذي يقدم للعقل العربي معلومات وحقائق عن الماضي ليتم فهم التعامل مع الحاضر ويؤسس للعمل والتخطيط للمستقبل، إن استخدام التوثيق ليس للتباكي ولا للتباهي ولا لإثارة الأحقاد ولكن للفهم والإدراك والمعرفة التي يجب أن تقود إلى الرشد.

الكثير من الناس إن لم يكن أغلبهم يمتلكون معلومات، وهي التي أطلقُت عليها مفهوم “المعلومات المخزنية” حيث أنها تكون عادة للحفظ والتباهي بتقديمها للآخرين على أنها الحقيقة المطلقة، وبأنهم حصلوا عليها سمعا من مصدر موثوق، ولكن حقيقة الأمر بأنها معلومات قد يكون بها شيء من الحقيقة وقد تكون كاذبة ملفقة 100 في المئة، حيث لم يبذل صاحبها جهدا بعرضها على عقله للتأكد من قبولها القبول المنطقي أولا، ثم التأكد من مصدرها وصحتها وواقعيتها ثانيا، قبل أن يقوم بنقلها للآخرين، وأخيرا تتبع نتائجها وأحوالها والعلائق الأخرى بها ومعها، الغاية منها فقط تصدر المجالس والتباهي.

لكن القلة القليلة من الباحثين والكتاب هم الذين يحولون المعلومات بعد إعادة عرضها على العقل ثم يعملون على تأهيلها وتوثيقها وإدراك ما فيها وتتبع مصدرها وغايتها لتصبح معرفة، إن السلامة في هذا الأمر هي بالكشف والتحليل للوثائق والأحداث والبعد كل البعد عن استهداف الأحداث والشخصيات ضمن أحكام مسبقة.

من أجل كل ذلك يتوجب علينا أن نعيد تأهيل العقل بما يلزمه من المعارف والمعلومات لسلامة الأحكام يجب فهم ودراسة عناصر القضايا الموروثة والتاريخ المنقول للأمة العربية عموما من جميع جوانبه، فالأمة العربية تعرضت لكل ما تعرضت له من ظلم واستهداف لأنه لم يسمح لها بإعمال العقل المنطقي في التخطيط الناجز للمستقبل، وهذا ما جعلها دائما رهينة لاستحضار الماضي والبطولات للهروب من الواقع المؤلم.

يجب إعادة قراءة الوثائق ومقارنتها مع الأحداث والوقائع لنفهم الماضي ونحاكي الحاضر ونخطط للمستقبل فالوثائق هي الدرع الذي تتمترس خلفه الحقائق ولا يمكن أن نخطط للمستقبل أن لم نفهم الماضي بكل تداعياته وحيث أن الوثيقة نصف الحقيقة ونصفها الآخر في التدقيق والكشف واستخراج النتائج.

يجب أن نجد أرضية قائمة على المعرفة والعلوم والتحليل وليس فقط نقل الأحداث بطريقة السمع والحكم المسبق، يجب ألا نركن بأي حال من الأحوال لتحليل الإعلام الصحفي فقط، والذي يخلق رأيا عاما مؤدلجا في الكثير من الأحيان، لنستطيع أن نؤسس لتخطيط إستراتيجي محكم ليست له علاقة بنظرية المؤامرة والاستهداف، وقائم على العلم والعمل والإدراك.

علينا أن نؤسس لقيام المنظومة المتوازنة من المعايير التي يعُتمد عليها في إدارة الأزمة، وكذلك بنك معرفة عربي يسُتند إليه في إدارة ما بعد الأزمة، إن التوثيق هو ذاكرة الأمة ووسيلة فهم الواقع والتخطيط للمستقبل وكشف للحقائق وقاعدة لبناء منظومة التخطيط الإستراتيجي.

معايير التوثيق

إن العمل في مجال التوثيق التحليلي يوجب على المشتغل به النظر بعين العقل لا الأذن فيما يخص الأحكام وإصدارها ونشر معلوماتها. ومن ضمن أهم المعايير حتى لا يكون هذا البحث تنظيريا فقط نذكر ستة معايير:

أولا الوعي الديني فهو عنصر مهم في استجماع وربط الأحداث من خلال الموروث الديني القائم على التحري والتأكد والاستنباط والبعد عن الافتراء وفهم حقيقي للرسالة السماوية الواحدة وما تبعتها من أحداث دينية وتغيرات مذهبية وتحول في الفكر الديني (يهودي ومسيحي وإسلامي) وضمن فهم معرفي.

ثانيا الوعي الجغرافي فمن المهم الاطلاع على الجغرافية في إعمال التوثيق كمؤشر ناعم للفهم الترابطي بين الأحداث والتواريخ وما يجمع بينها من مورثات، وهو مصدر مهم لفهم العادات والتقاليد والتشابك الاجتماعي وكذلك الطبيعة الإنسانية التي تميز شعبا عن شعب، وكذلك أهمية الموقع الجغرافي في التخطيط العالمي وفهم طبيعة إدارة المصالح.

◙ من أفجع جوانب المأساة العربية في مجال كتابة التاريخ هو طغيان المغالطات وألوان الدجل والكذب والافتراء والتجني

ثالث المعايير الوعي التاريخي، فتلقي معلومات جديدة مغايرة للمعلومات التي تكونت وتشكل منها الجدار الناري والعمق المعرفي والحكمي للعقل الباطن في الحكم على الأشياء والأحداث والأشخاص، له أثر كبير في إعادة ترتيب الحقائق بعيدا عن الاستهداف، وتشبيك حقيقي للمعلومات التاريخية مع الأحداث المتفرعة منها وعنها وما يؤسس له من تاريخ سمعي أو نقل سياسي تاريخي يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار.

رابعا الوعي الثقافي، إذ أن إدراك وفهم ثقافة شعب عن شعب أو أمة عن أمة يوفران أدوات التحليل الناجز الذي من خلاله يتم ربط كل الخيوط المتوفرة في ما بين يدي الموثق كما أن القراءة المتنورة والتوسع في فهم الثقافة من جوانبها الموروثة أو المكتسبة عبر الكتابات وتوسعها في مصادر الكتابة عنها، هما من أهم الأسس.

المعيار الخامس الذي نذكره هو الوعي بالتوقيت (الوقت الزمني) فإدارة العملية التوثيقية يجب أن يلازمها دون أي ملابسات فهم لتسلسل القرارات والأهم تواريخها، ومعرفة مواقيت اتخاذها وسبب اتخاذها وإشكالية التعامل مع الوقت في اتخاذ هذه القرارات لأن الأخطر من الحدث هو توقيته.

أما سادس المعايير في رأينا فهو الإدراك والفهم المجرد، فالمشتغل بعلم التوثيق يجب أن تكون لديه القدرة على البحث والتأصيل والفهم العميق في إدارة معلوماته التي يعمل عليها مع كل تلك المعايير الناظمة لإدارة منظومة الإخراج النهائي فإن أي إنسان في هذا الكون يستطيع أن ينقل الحدث من الزاوية التي يريد أن يراها الآخرون بعين نقلها السمعي مع إغفال أو استغفال للزاوية الأخرى التي تحيط بهذا الحدث، وإن احتكار الحقيقة والادعاء المطلق بها من كوارث وآفات العلوم، لأن الحقيقة المطلقة هي من الاختصاص الإلهي، فكل شخص في هذا العالم يعتقد الحقيقية بالشكل الذي يصله من المعلومات عنها أولا وبما يستطيع العقل من إدراكه وتحويله إلى وعي ثانيا.

خاتمة كل ذلك أنه قد ترسخ عندي بأن الحقيقة كالألماس من حيثما تنظر لها ترى انعكاس ما حولها عليها فهي ليست مجردة من انعكاس البيئة والحفظ والإضاءة الساطعة عليها وتغير وتعدد الألوان فيها. التوثيق هو المخرج الحقيقي للخروج من منظومة الزيف والكذب والافتراء التي لا يمكن أن تقود إلى التقدم والمستقبل الأفضل للأمة والشعوب العربية.