بين العدالة المطلقة والبشرية
إبراهيم أبوحويله
وقفت هنا اردت أن اقول الخلافة العادلة ولكني ادرك تماما من حجم ما اطلعت عليه من هذا التاريخ بأن العدالة كانت دائما مطمحا ومطمعا وتحقق معظمها في ازمان ، وتحقق وبعضها في ازمان أخرى ، نعم كانت الغلبة لأمر الإسلام في المجمل ، ولكن هذا المجمل إذا اردت أن تخوض في تفاصيله رأيت الكثير الذي يحتاج إلى التحقيق .
اقول هذا الكلام لأني اريد من الجميع أن يعلم أن العدل المطلق لم يكن في يوم على هذه الأرض ، وليس هذا مطلوبا هنا ، نعم نسعى إليه بكل ما نملك من قوة وندافع عنه بكل الوسائل ، ولكنه لم يكن يوم هنا ، ولذلك كان المقصد الأعظم للشريعة هو جلب المصالح ما استطعنا إلى ذلك سبيلا ، ودرء المفاسد ما استطعنا إلى ذلك سبيلا ، وهنا تتضح الرؤية لمن يسعى لها بأن العدالة على هذه الأرض منقوصة ولكن مع ذلك يجب أن نسعى إليها .
وفي الحديث العجيب عنه صل الله عليه وسلم ( إنما أنا بشر ، وإنكم تختصمون إلي ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، فأقضي له بنحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار ) متفق عليه والعجب هنا من الحجة البالغة التي القاها صل الله عليه وسلم في روع الجميع بأن الحقوق مدارها هو الحق نفسه وليس حكم من حاكم ولا قاض ولا غيره ، وأن هذه الحقوق لا تسقط مع الزمن ولا غيره ولا بد من يوم تؤدى فيه هذه الحقوق إلى أصحابها . ومع هذا إذا كثر الخبث وزاد الظلم وإنتشر عندها يقع المحذور بأن نهلك جميعا بعقاب أو خسف أو غيره كما في حديث زينب في الصحيحين ، وعندها قالت زينب بنت جحش لرسول الله صل الله عليه وسلم ( أنهلك وفينا الصالحون ) قال (نعم إذا كثر الخبث ) نعم إذا كثر الخبث .
وبين من يرى بأن الماضي كله ماض ويجب تجاوزه إلى غيره ، جحود كامل لكل ما يتصل بالدين ، ويا ليت هذا وامثاله لديهم القدرة والعقل والحكمة ليخرجوا لنا منهجا تسير عليه البشرية ، ولكنه شذرات افكار وبعض النظريات وقليل من الثقافة العابرة للزمن والتي لم تصلح في زمانها ولا مكانها حتى تكون لنا منهجا ، فكل من اطلع على التاريخ يدرك حجم معاناة البشر من البشر ومن هذه المناهج التي تحمل نظريات قاصرة ، ولا تَصلح ولا تصلح ، وما الشيوعية ولا الرأسمالية ببعيدة عن هذا بل هي إمتداد لهذا الجهد البشري الذي يجحد بما بين يديه ثم يريد بعد ذلك أن يبدع منهجا ، فلا بقي غرابا ولا أصبح طاوسا .
كان شكيب أرسلان الدرزي الذي إتبع مدرسة الإمام محمد عبده وسعى لإصلاح حال الأمة يخشى من الجاحد والجامد واللامبالي ، تسير الامة في طريق الهلاك والتراجع ويرى الفساد ، ويعلم أثر هذا الإنحراف الأخلاقي والمالي والإجتماعي والديني على الأمة ويسكت وكأن الموضوع لا يخصه من قريب ولا بعيد ، نحن هنا لا نتكلم عن تلك الأمور التي تحتمل الخلاف ولا هي محل الإجتهاد ، نتكلم عن أنحراف مالي سرقة ورشوة ووضع للمال في غير مكانه الصحيح المتفق على صحته ، وعن تلك الأخلاق التي تؤثر على المجتمع من غش وكذب وظلم وتجاوز في الحقوق ونسكت عن تلك الأخلاق التي تؤثر على الأمة وعلى تقدم الأمة وعلى إستقرارها ، أما ما بلينا به في هذا الزمن فهي فئة تأخذ الدين على أنه لباس معين ودور عبادة ، وبعد ذلك يفعل في حياته ما يشاء فلا أخلاق تعاملية ولا ذمة ولا ضميرا ، هذا وأمثاله أماتوا الدين في الأمة .
لقد إختصرت هذه المصطلحات التي أطلقها شكيب أرسلان كما كبيرا ، نعم بين من يريد أن يطبق الدين بدون فهم لمقاصده وأهدافه ، وبدون معرفة للطبيعة الإنسانية والعصر وما يحتاج كل منهما ، فيسعى لإعادة صورة عشقها ورأى فيها عدل ونموذجا يحتذى ، فهو يريدها كما هي بلا زيادة ولا نقصان ، ولم يدرك أن الفقه أصول وأن الدين مقاصد ، وأن ما يصلح لزمان لا يصلح لأخر وما يصلح لمنطقة لا يصلح لأخرى وما يصلح لفئة هنا لا يصلح لفئة هناك ، وأن السياسة الشرعية تتغير بتغير أهل الحل والعقد ، فعندما كتب الماوردي الأحكام السلطانية كان الشيعة قد استولوا على الحكم وكانت الخلافة العباسية مجردة من كل شيء ، وكان الحكم للمستبد الغالب ، فنظر الماوردي فيما يصلح الأمة ويصلح للأمة فجاءت أحكامه غير متفقة مع فترات كانت فيها الغلبة للخلافة .