المال بدل الرصاص… شكل جديد لـ"الحرب الأهلية" في ليبيا

 

تستمر ليبيا في الانزلاق إلى دوامة من الاضطرابات العميقة مع اشتداد حدة المعركة حول مستقبل البنك المركزي الليبي، بعد أن فر محافظ هذا البنك، صادق الكبير، من البلاد وسط تهديدات لحياته وسلامة موظفيه، ما تسبب في وقف عمليات البنك تقريبا. وقد عرّض هذا الموقف النظام المالي الليبي للخطر وأدى فوق ذلك إلى اهتزاز الثقة الدولية في استقرار النظام المصرفي في البلاد.

وعلى النقيض من الحروب الأهلية في الماضي، يتركز هذا الصراع حول السيطرة على ثروات ليبيا الكبيرة، وخاصة البنك المركزي وإنتاج النفط. وقد استغلت الطبقة القيادية غير الشرعية هذه الموارد، مما دفع البلاد إلى مزيد من الفوضى لتحقيق مكاسب شخصية. وفي غياب تدخل دولي فعال يمكنه أن يستفيد من الأزمة المالية الراهنة لتعزيز الاستقرار، من المرجح أن يتدهور المشهد السياسي في ليبيا بشكل أكبر، حتى لو حُلت الأزمة المصرفية الحالية مؤقتا.

وتلقي أحدث مبادرة برعاية الأمم المتحدة، التي أُعلن عنها في الثاني من سبتمبر/أيلول الحالي، الضوء على التطور المعقد للمؤسسات السياسية في ليبيا. ويشمل الاتفاق بشأن مستقبل البنك المركزي مجلس النواب، الذي انتُخب في عام 2014، والمجلس الأعلى للدولة، الذي تأسس كجزء من الاتفاق السياسي الليبي عام 2015، من جهة، والمجلس الرئاسي من جهة أخرى. وهذا التعاون غريب من نوعه، لأن مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة نادرا ما يجدان أرضية مشتركة يتفقان عليها، ولكنهما تمكنا من إيجاد أرضية مشتركة فيما يخص مستقبل البنك المركزي، سواء كان ذلك يتضمن إعادة تعيين صادق الكبير أو تنفيذ ترتيب انتقالي بديل.

لقد كان المجلس الرئاسي (الذي نتج عن منتدى الحوار السياسي الليبي لعام 2021 بعد الحرب الأهلية 2019-2020، والمكون من ثلاثة أعضاء)، عديم التأثير، ولا سيما حين تنازل عن معظم سلطته الاسمية لحكومة الوحدة الوطنية ورئيس وزرائها عبد الحميد الدبيبة الذي انتهت ولايته منذ أكثر من عامين، ولا يزال في منصبه حتى الأزمة الحالية. وكان خلاف الدبيبة مع الكبير بشأن الإنفاق المالي وراء الأزمة المالية الأخيرة.

ومع ذلك، كان المجلس الرئاسي هو من أطاح بصادق الكبير متعللا بما سماه "حقه الدستوري"، وهو ادعاء قانوني مشكوك فيه وطُعن فيه على الفور، وعين مكانه عبد الفتاح عبد الغفار محافظا جديدا. في 2 سبتمبر، وغرد بنك ليبيا المركزي الذي أعيدت هيكلته حديثا بأنه "عاد إلى العمل كالمعتاد".

وفي مؤتمر صحافي قبل يومين، وعد عبد الغفار "بالشفافية والإفصاح للسلطات الإشرافية عن كل البيانات المتعلقة بالبنك"، وتعهد بعدم إخفاء أية بيانات. وعلى الرغم من أن بنك ليبيا المركزي الجديد يسيطر الآن على المقر الرئيس المادي ورموز "SWIFT"، فمن غير المرجح أن تعود العلاقات الدولية للبنك إلى طبيعتها دون حل معتمد عالميا للأزمة المصرفية. قد يتمكن البنك من دفع رواتب معظم موظفي القطاع العام بالدينار، ولكن المرجح أن تستمر العملة في الانحدار مع بقاء النظام المصرفي الأوسع نطاقا محفوفا بالمخاطر.

وعلى مر السنين، عُرقلت الاتفاقيات الليبية المحتملة مرات كثيرة، إما من قبل حفتر أو المفسدين الدوليين أو كليهما. وكان حفتر، في أثناء المفاوضات بشأن الاتفاق السياسي الليبي، يجد باستمرار طرقا لرفض المقترحات. ورغم أن نظراءه في الغرب ليسوا أبرياء من اللوم، فقد ثبت أن ملاحقة حفتر كانت عديمة الجدوى، وخاصة عندما شن هجوما على طرابلس في عام 2019. وحين حُدد موعد الانتخابات في ديسمبر/كانون الأول 2021، كان ترشيح حفتر أحد العوامل الرئيسة التي دعت إلى تأجيل الانتخابات إلى أجل غير مسمى.

لقد دعمت مصر حفتر باستمرار، بينما تدخلت تركيا لإنقاذ طرابلس في عام 2020. ومع ذلك، فإن التحالف الأكثر إثارة للقلق لحفتر اليوم هو مع روسيا، التي لن تدع فرصة التأثير على ثروة ليبيا تفلت من أيديها، خاصة عندما يتعلق الأمر بالتلاعب في إنتاج النفط الليبي.

وفي أوائل أغسطس/آب، فإن صدام حفتر، نجل خليفة حفتر، الأشد قسوة، أوقف الإنتاج في حقل الشرارة النفطي جنوب غربي ليبيا، مما أدى إلى خفض الإنتاج بمقدار 300 ألف برميل يوميا من نحو 1.3 مليون برميل أواخر يوليو/تموز، وفقا للمؤسسة الوطنية للنفط في ليبيا.

وبحلول 24 أغسطس، انخفض الإنتاج إلى أقل من 600 ألف برميل يوميا، مما دفع المؤسسة الوطنية للنفط إلى "إعلان القوة القاهرة" في الكثير من الحقول، والتي أغلق خليفة حفتر الكثير منها لكسب النفوذ في سعيه للسيطرة على البنك المركزي الليبي. وانخفض الإنتاج إلى 300 ألف برميل يوميا، مع بقاء حقل واحد فقط يعمل بكل طاقته، هو حقل الواحة الواقع في أقصى الغرب. واستأنفت شركة الخليج العربي الإنتاج بمعدل 140 ألف برميل يوميا، ولكن إنتاجها كان في المقام الأول لتزويد المصافي المحلية وشبكة الكهرباء المحلية، وليس للتصدير.

وبعد إعلان المؤسسة الوطنية للنفط عن "القوة القاهرة"، ارتفعت أسعار النفط العالمية بنسبة 2-3 في المئة. ورغم استقرار الأسعار منذ ذلك الحين بسبب عوامل أخرى، مثل زيادة الإنتاج المخطط لها من قبل "أوبك+"، وانخفاض الطلب من الصين، فإن تقلبات إنتاج ليبيا تؤكد كيف ستستمر تغيرات إنتاجها في التأثير بشكل كبير على أسعار النفط العالمية.

وتتوقع إحدى شركات تحليل الطاقة أن يستقر الإنتاج الليبي بين 300 ألف و400 ألف برميل يوميا إذا ظل حقل الواحة يعمل– حتى عند مستويات منخفضة– وإذا استمرت الحقول التي تديرها شركة "أجوكو" في العمل. وفي المقابل، يبدي خبراء آخرون تفاؤلا أكبر، معتقدين أن الأزمة ستحل بسرعة أكبر. واليوم، تستهلك محطات النفط كميات إضافية من النفط المخزن لديها لمواكبة الطلب. ولكن هذا النفط المخزن بدأ ينفد، وعندما يحدث هذا فإن آثار توقف الإنتاج سوف تتضح. وحتى لو أعيد تشغيل حقول النفط قريبا، فإن نتائج ذلك لن تكون فورية.

وعلى النقيض من المفاوضات السياسية السابقة في ليبيا، حيث فشلت القوى الأميركية والأوروبية في ممارسة الضغط الكافي على الجهات الفاعلة الليبية والدولية التي تعرقل الاستقرار، فإن الولايات المتحدة تمتلك الآن نفوذا أكبر لمعالجة الأزمة المحيطة بالبنك المركزي.

لقد عقدت بعثة الأمم المتحدة الخاصة في ليبيا منتدى لحل الأزمة المتعلقة بالبنك المركزي الليبي. ولدعم هذه المفاوضات، يمكن للولايات المتحدة أن تهدد بتحذير البنك من عدم التعامل مع بنك ليبيا المركزي حتى يجري التوصل إلى حل مقبول وشفاف. ولأن البنوك الكبرى أوقفت المعاملات بالدولار مع بنك ليبيا المركزي، فإن دعم الولايات المتحدة للعملية التي تقودها بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا سيكون له أثر كبير، يفوق بكثير جهود المفسدين التقليديين.

وتبقى الفكرة الأكثر جرأة بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين هي العمل على حل الصراع الطويل الأمد في ليبيا من خلال المساعدة في تشكيل حكومة جديدة يديرها خبراء بدلا من السياسيين، بحيث يكون الهدف من ورائها تحقيق الاستقرار للبلاد. بالطبع، ستواجه مثل هذه الحكومة تهديدات من الجماعات المسلحة، ولكن إذا حُرمت هذه الجماعات من الأموال، فقد تستسلم. ومن يدري، فقد يؤدي ذلك أيضا إلى توفير الوقت والمساحة لتشكيل تحالفات ليبية بديلة من السكان وتغيير النخبة السياسية التي تعاملت لفترة طويلة مع ليبيا وكأنها حسابات مصرفية شخصية لها.