استدامة الدين في الأردن.. نتائج واستنتاجات

 

  سلامة الدرعاوي 

بعد سلسلة المقالات المختصة حول استدامة دين المملكة التي تم نشرها خلال الأسبوعين الماضيين، وجب علينا الخروج ببعض النتائج والاستنتاجات التي هي وليدة هذا البحث المستند إلى المعطيات الرقمية الحقيقية وسيناريوهات سياسية واقتصادية متعددة.

علينا أن نأخذ في تحليلنا هيكل الدين العام بوضعه النهائي بنظرة شمولية بعيدة عن المؤشرات الظاهرية فقط، فالمسببات لها ارتباطات كبيرة بحجم الدين وتطوره، وهو يعكس أيضاً استمرارية عمليات الإصلاح المالي ومدى التفاوت في الأداء من فترة لأخرى.

الدين العام الذي باتت نسبته تقترب من 115 % من الناتج المحلي الإجمالي أمر مقلق، ولا أحد ينكر هذا القلق المشروع، لأنه سيستنزف موارد الدولة التي يجب توجيهها نحو المشاريع الرأسمالية المنتجة والمشغلة والداعمة للنمو الاقتصادي، فهناك ما يقارب 2 مليار دينار كخدمة الدين التي تُدفع سنويًا، وهو رقم كبير يشكل ما يقارب 18 % من حجم إنفاق الموازنة. ولو تراجع هذا الرقم، لكانت المخصصات للاستثمار والتشغيل ومحاربة الفقر والبطالة أكبر، والجهود والنتائج الإيجابية ستتضاعف، لكن مسببات نمو الدين الاستثنائية استنزفت الكثير من موارد الدولة المتاحة والمحدودة أصلاً.
رقم الدين العام، والمضاف إليه دين صندوق الضمان الاجتماعي (42 مليار دينار)، في الأرقام المطلقة هو أيضًا مقلق وضاغط على موارد الدولة، وهي أرقام محل تداول للرأي العام بين الفترة والأخرى، وفي كثير من الأحيان تخرج تلك التحليلات عن محددات المنطق الاقتصادي الرشيد.
ولعل الوصول لمرحلة الحوار العشوائي حول الدين في بعض الأحيان يبرره، ويستند إلى مشروعية عالية أبرزها غياب الحوار العقلاني والمنطقي من الحكومة، وتحديدًا من وزارة المالية صاحبة الولاية في هذا الأمر.
وهناك غياب كامل للخطاب الإعلامي الاقتصادي المنفتح مع الرأي العام حول موضوع الدين، الذي من الواجب على الوزارة أن تتبع آلية رشيدة ومنفتحة في التواصل العلمي والعملي لشرح هيكل الدين ومبرراته بشكل عام، وأن الأمر تحت السيطرة والمعرفة الكاملة بالتوجهات، وليس متروكًا للقضاء والقدر كما يتصوره البعض.
علينا أن نعترف بأن التقصير في إدارة الحوار حول المديونية لا يتحمله الشارع بقدر ما هي مسؤولية رئيسية تقع على عاتق وزارة المالية، ولو كان الحوار يتم بطريقة مؤسسية ومنهجية منفتحة، لذهبت الكثير من الإشاعات والكلام غير الموزون أو غير المنطقي عن الدين أدراج الرياح.
فالحوار العلمي والعملي الجريء كفيل بإزالة الشوائب حول أي موضوع مثار للجدل من قبل الرأي العام، فكيف الحال بموضوع مثل المديونية الذي يهم كل صغير وكبير، ويهم أجيال اليوم والمستقبل؟ فالمعلومة الصحيحة والسليمة والصادقة والتي تخرج في وقتها كفيلة بتعزيز الثقة في السياسة الرسمية في أي موضوع كان.
وهنا لا بد لنا بعد هذه المقدمة أن نخرج بمجموعة من النتائج والاستنتاجات التي قد تجيب على بعض تساؤلات المحللين والرأي العام المهتم بشأن المديونية وتطوراتها:
- إن ارتفاع مستوى الدين العام لا يكون المعيار الأوحد للحكم النهائي على وضع المديونية والمخاطر المترتبة عليها.
- كما أن الدين العام في الأردن مستدام خلال السنوات القادمة، وهذا ما تؤكده الدراسات المختصة الصادرة عن أهم بيوت الخبرة في العالم، والتي جميعها تخرج بنتيجة واحدة وهي استدامة الدين العام في الأردن تحت سيناريوهات متعددة.
- إن برنامج الإصلاح المالي والهيكلي الذي اعتمدته الحكومة بدعم من صندوق النقد الدولي يهدف إلى وضع نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي على مسار تنازلي، ليصل إلى أقل من 80 % من الناتج في نهاية عام 2028.
ويتضح جليًا من خلال المعطيات الرقمية والواقع الفعلي لهيكل الدين وآليات التعامل الرسمي معه أن الحكومة لديها رؤية واضحة عن التكاليف المالية المرتبطة بالدين خلال السنوات القادمة، حيث تمتلك استراتيجية للدين العام ذات بعد تنظيمي تعكس شفافية إدارة ملف الدين العام في المملكة وملتزمة بتطبيقها.
ولا بد من التنويه الواضح لمدى انعكاس تداعيات جائحة كورونا وما نجم عنها من انكماش اقتصادي على الموازنة العامة خلال عام 2020، والذي أثر سلبًا على حصيلة الإيرادات المحلية، وأدى إلى ارتفاع عجز الموازنة العامة بعد المنح الخارجية بمقدار 3.7 نقطة مئوية، ليصل إلى ما نسبته 7 % من الناتج (2,182.4 مليون دينار).
كما أدت الجائحة إلى حدوث قفزة غير اعتيادية في رصيد دين الحكومة كنسبة من الناتج، بنحو 9.6 نقطة مئوية (حوالي 2.540,6 مليار دينار)، ليتجاوز بذلك حاجز 100 % من الناتج في نهاية عام 2020.
ومع كل ذلك، لم تلجأ الحكومة إلى الخيارات السهلة للتعامل مع التحديات التي برزت أمام السياسة المالية، بل اختارت طريق التصدي للتحديات مرتكزة على رفع الكفاءة في إدارة المالية العامة، والتي تظهرها ارتفاع نسب تحصيل الإيرادات المحلية بعد الجائحة، لتتجاوز التحصيلات المتحققة فعليًا حاجز 100 % من التقديرات المستهدفة في قوانين الموازنة العامة، حيث بلغت نسبة التحصيل الفعلية ما نسبته 104 % و107 % لعامي 2021 و2022 على التوالي، ولتبلغ 96.2 % لعام 2023، مقارنة مع ما نسبته 89.2% بالمتوسط، خلال الفترة (2017 - 2019) قبل الجائحة. كما لم تلجأ الحكومة إلى تخفيض نفقاتها الرأسمالية كسبيل لمعالجة الحيز المالي الضيق الذي تعاني منه، حيث شهدت النفقات الرأسمالية ارتفاعًا كنسبة من الناتج خلال السنوات التي تلت الجائحة، مُسجلة ما نسبته 3.9 % من الناتج بالمتوسط، مقابل 3.2 % من الناتج بالمتوسط خلال الفترة (2017 - 2019)، ومحققة أعلى نسبة لها خلال عام 2022 (4 % من الناتج)، كما ارتفعت حصة النفقات الرأسمالية من إجمالي الإنفاق العام بحوالي 1.3 نقطة مئوية بعد الفترة التي تلت الجائحة، لتشكل ما نسبته 12.8 % بالمتوسط، مقارنة مع 11.5 % بالمتوسط خلال الفترة (2017 - 2019).
ورغم كل التحديات، لم يتأخر الأردن يومًا عن الوفاء بالتزاماته المالية، وفي ذروة الجائحة، صمدت الحكومة وسددت 1.25 مليار دولار سندات يوروبوند استحقت عليها في شهر تشرين الأول من عام 2020.
من جانب آخر، ووفقًا لقاعدة بيانات البنك الدولي، تضاعف حجم الدين العام في الأردن أقل من 3 مرات منذ عام 2010 مقارنة مع 2.5 مرة في قطر، وأكثر من 16 مرة في تركيا عن مستواه في بداية الفترة، وتمتلك الحكومة خيارات تمويل محلية متنوعة (مصادر بنكية، ومصادر غير بنكية) توفر المرونة لتأمين الاحتياجات التمويلية اللازمة لها.
سلوك الحكومة في الاقتراض يتمتع بمرونة عالية في القرار، فالحكومة تختار الوقت المناسب للولوج إلى الأسواق العالمية من خلال التخطيط المستمر ومتابعة الأسواق وتحليلها، والتقييم الدقيق للوضع الاقتصادي العام.
السياسات الرسمية في إدارة الدين أدت فعليًا إلى انخفاض حجم المخاطر التي قد تترتب على عملية إعادة التمويل، في ظل وجود سيولة كافية متاحة للإقراض لدى البنوك، ووفورات كافية لدى صندوق استثمار أموال الضمان الاجتماعي.
ولا بد من التنويه إلى أن أكثر من نصف مصادر الدين الخارجي (55.1 %) هي قروض ميسرة، بأسعار فائدة تفضيلية وذات آجال استحقاق طويلة الأجل.
ويتضح جليًا أن الاقتصاد الوطني قادر على توفير موارد ذاتية للعملة الصعبة (صادرات من السلع والخدمات، وحوالات العاملين في الخارج، والاستثمار الأجنبي المباشر،...إلخ) يستفاد منها لتغطية الالتزامات المالية لخدمة الدين الخارجي. كما أنه وفقًا لقاعدة بيانات البنك الدولي، حصة المواطن الأردني من الدين العام (4.1 آلاف دولار) تقل عن العديد من الدول الأخرى، لذلك سلامة النهج الاقتصادي والمالي في المملكة تؤكده شهادة مؤسسات التصنيف الائتماني، وهي رسالة قوية بالثقة في السياسات الاقتصادية والإصلاحات التي انتهجها الأردن، مثل رؤية التحديث الاقتصادي.
إن رفع التصنيف الائتماني الخاص بالأردن الذي قامت به وكالة موديز من B1 إلى Ba3؛ وتغيير النظرة المستقبلية من إيجابية إلى مستقرة يمثل أول رفع لتصنيف الأردن الائتماني منذ 21 سنة، كما قامت وكالة "كابيتال إنتليجنس" برفع التصنيف الائتماني للأصول السيادية الأردنية طويلة الأجل المقومة بالعملتين المحلية والأجنبية من  BB- إلى BB مع تعديل النظرة المستقبلية من إيجابية إلى مستقرة، فيما قامت وكالة فيتش بتثبيت التصنيف الائتماني السيادي للمملكة طويل الأجل ليبقى عند مستوى BB مع نظرة مستقبلية مستقرة.
إن رفع التصنيف الائتماني للمملكة من شأنه المساهمة في تخفيض تكاليف الاقتراض مستقبلاً، وتحسين ثقة المستثمرين، وزيادة القدرة على الوصول إلى الأسواق المالية الدولية، وهو ما قد يؤدي إلى جذب الاستثمار وتعزيز التنمية الاقتصادية.