التدخلات الدولية في السودان ومصير مفاوضات جنيف
أمجد الطيب
لم تقتصر التدخلات الدولية في حرب السودان على المبادرات السياسية فقط، بل تعددت التقارير الصحافية المستقلة وتقارير لجنة الخبراء المستقلة المعنية بدارفور في توثيق التدخلات المباشرة لأطراف إقليمية ودولية في تأجيج الحرب في السودان
ومنذ نجاح الثورة في إسقاط نظام البشير وتكوين الحكومة الانتقالية في أغسطس/آب 2019، تزايد اهتمام العالم بالأوضاع والتغيرات الإيجابية في السودان. وجاء طلب رئيس وزراء الحكومة الانتقالية عبد الله حمدوك للأمين العام للأمم المتحدة بتكوين بعثة أممية لدعم الانتقال في السودان، لتقنين هذا الاهتمام بشكل رسمي وبقبول الدولة السودانية. وبعد انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، تحول اتجاه التدخل الدولي في السودان من دعم الانتقال إلى محاولة إنهاء الانقلاب واستعادة مسار الانتقال المدني الديمقراطي في السودان. وبالفعل، تكونت آلية ثلاثية شملت بعثة الأمم المتحدة الخاصة بالسودان (يونيتامس) بالإضافة إلى الاتحاد الأفريقي ومنظمة كتلة دول شرق أفريقيا التي مثلتها الهيئة الحكومية للتنمية (الإيقاد) للدفع بجهود التفاوض السلمي مع العسكري لإنهاء الانقلاب.
واعتمدت الولايات المتحدة في ذلك الوقت السياسة التي تبنتها مساعدة وزير الخارجية الأميركية للشؤون الأفريقية، مولي فيي والتي ارتكزت بشكل أساسي على مغازلة طموحات العسكريين والسعي لإرضائهم بأي وسيلة كانت. هذا التعامل السطحي مع الأوضاع المعقدة في السودان ساهم بشكل كبير في زيادة الاستقطاب بين الطرفين العسكريين في المعادلة السودانية: قوات الجيش و"قوات الدعم السريع"، إثر تصاعد طموح كل منهما للانفراد بالسلطة. وقد تجاهل السفير الأميركي جون غودفري حينها كل المؤشرات الواضحة على مساوئ سياسة مغازلة العسكر التي كان يتابع تنفيذها حتى اندلعت الحرب بينهم في السودان.
واستمرت الولايات المتحدة في انتهاج السياسة نفسها بعد الحرب، والتي تعتمد بالأساس على السعي الى إرضاء الأطراف المسلحة، بغض النظر عن أي التزامات قانونية أو أخلاقية أو سياسية لإنهاء النزاع في السودان. هذا الأمر أدى إلى فشل تنفيذ الاتفاقات المتعددة التي تم التوصل إليها في منبر جدة وإجبار الطرفين-وبالأخص ميليشيا "قوات الدعم السريع"- على الالتزام بها وتنفيذها. وأكبر مثال على ذلك هو إصرار ميليشيا "الدعم السريع" على استمرار احتلال بيوت المواطنين والمنشآت المدنية وتحويل ذلك إلى ورقة تفاوضية في المحادثات وقبول الوسطاء بذلك. وقد أدى هذا بدوره إلى مواقف متعنتة بخصوص التفاوض وهيكليته والأطراف القائمة عليه من قبل الحكومة السودانية والجيش السوداني.
آخر فصول المبادرات الدولية التي لم تلاق حظها من النجاح، كانت المفاوضات التي دعت إليها الولايات المتحدة في سويسرا بمشاركة المملكة العربية السعودية كمضيف شريك، ووجود مصر والإمارات العربية المتحدة كمراقبين. وقد قاطعت الحكومة السودانية حضور هذه المفاوضات التي بدأت يوم 14 أغسطس 2024، بسبب عدد من التحفظات التي لم تلاق جوابا من الميسرين الدوليين، ولكن أبرزها كان في إصرار الوسيط الأميركي على تقديم دعوة المفاوضات للجيش السوداني وليس للحكومة السودانية، وهو ما رأت فيه القيادة السودانية انتقاصا من السيادة. كما لعب إلغاء مديرة وكالة الإغاثة الأميركية (USAid) سامنثا باور والمبعوث الأميركي الخاص للسودان توم بيريليو زيارتهما التي أُعلن عنها مسبقا لبورتسودان قبل أيام قليلة من المفاوضات، لعب هذا الإلغاء دورا في زيادة حدة التوتر وعدم الثقة من الجانب السوداني في الوسيط الأميركي. بالإضافة إلى عدم وجود ضمانات أو آليات تنفيذ مقترحة للاتفاقات السابقة وعلى الأخص إعلان جدة لحماية المدنيين وهو ما ظلت تطالب به الحكومة السودانية والجيش السوداني منذ توقيعه في 11 مايو/أيار 2023. ولم تقصر "قوات الدعم السريع" بدورها في تأزيم وضع المفاوضات التي رحبت بها، حيث تزايدت هجماتها على الفاشر في شمال دارفور منذ إعلان الدعوة للتفاوض، وقامت بارتكاب جرائم شنيعة مثل قصف وتدمير مستشفى النساء في أم درمان يوم 9 أغسطس، وهو ما صمتت عن إدانته دوائر المجتمع الدولي لضمان حضور الميليشيا للتفاوض، ولكن هذه الأخيرة كررت الجريمة نفسها يوم 13 أغسطس بقصف مستشفى النو للأطفال وقابلها المجتمع الدولي مرة أخرى بالصمت المطبق. وهو ما أثار حنق الدوائر السودانية تجاه هذه الحصانة المؤسسية التي تحظى بها "قوات الدعم السريع" في مواجهة جرائم حرب، وإن كان الغرض منها ضمان مشاركة الميليشيا في التفاوض. ولكن الميليشيا لم ترعوِ، لتفوق حصيلة قتلاها من المدنيين في يوم افتتاح التفاوض أكثر من مئة قتيل بين ولايات الخرطوم، وسنار وشمال كردفان والجزيرة ودارفور، وقد سقط أغلبهم في قصف متعمد لمدرسة فتيات في مدينة الأبيض- شمال كردفان. وقد أرسلت "قوات الدعم السريع" وفدها للتفاوض، لكن بسبب كل ذلك تحولت فرصة المفاوضات المزمعة في جنيف إلى اجتماع مغلق للأطراف الدولية، دون حضور الطرفين المتحاربين.
ولم تقتصر التدخلات الدولية في حرب السودان على المبادرات السياسية فقط، بل تعددت التقارير الصحافية المستقلة وتقارير لجنة الخبراء المستقلة المعنية بدارفور في توثيق التدخلات المباشرة لأطراف إقليمية ودولية في تأجيج الحرب في السودان. تم ذلك عبر الدعم المباشر بالسلاح والمعدات الحربية والوقود وغيرها من معينات الحرب التي تم توثيق تقديمها لـ"قوات الدعم السريع" من قبل هذه الأطراف. وبطبيعة الحال، أثار اندلاع الحرب في السودان شهية كثير من الأطراف للعمل على تحقيق مصالحهم في السودان في خضم هذه الحرب. وهو ما ساهم في تصعيد النزاع وزيادة تعقيد الأوضاع على الأرض، وأدى بدوره إلى تفاقم الأزمة الإنسانية في البلاد.
أثار اندلاع الحرب في السودان شهية كثير من الأطراف للعمل على تحقيق مصالحهم في السودان في خضم هذه الحرب
في عالم اليوم، لا يمكن تصنيف التدخل الدولي كخير مطلق أو شر مطلق. ولكن التدخلات الدولية في السودان حتى الآن شهدت كثيرا من الاختلالات التي تحتاج إلى تصحيح كبير لتصب في خانة السعي الإيجابي لإنهاء الحرب واستعادة الاستقرار لصالح الشعب السوداني الذي يعاني الأمرين.
أبرز هذه المثالب هو عدم التنسيق بين الجهود المتعددة، مما أدى إلى إضعاف تأثيرها بشكل كبير وخلق حالة "التسوق بين المنابر" (Forum Shopping) التي تسمح للأطراف المتحاربة بالتخلي عن التزاماتها في منبر والقفز منه إلى منبر جديد. إنهاء هذه الدوامة والتناسل المستمر للمبادرات يتطلب تنسيقا دوليا لجهود ومبادرات الحل في السودان، يتم فيه تقسيم الواجبات والمهام بشكل واضح بين الأطراف المهتمة وذات النفوذ على الطرفين. هذه الخطوة هي الأولى لنجاح الجهود الدولية ودفعها باتجاه تحقيق السلام في السودان.
كما اتسمت الجهود الدولية إيضا بتجاهل مخزٍ لقواعد القانون الدولي، خصوصا فيما يتعلق بالانتهاكات ومرتكبيها. ويتم القفز على حقائق ما يحدث على أرض الواقع من فظائع، ومحاولة إرضاء مرتكبي الانتهاكات بتجاهل انتهاكاتهم والقبول بسردياتهم غير الحقيقية والمجافية للمنطق كأساس للتعامل معهم بغرض دفعهم للانخراط في التفاوض. بالطبع، فإن التعامل مع سرديات مجافية للواقع لن يقدم حلولا للمشاكل على أرض الواقع. والتفاوض الذي يقوم على مثل هذا الأساس لن ينتج سوى حلول "قسمة سلطة" بين الأطراف المتحاربة، مما يكافئ المجرمين على جرائمهم بدلا من إنتاج حلول تصب في مصلحة استقرار الشعب السوداني. وكما يجب على المجتمع الدولي اتخاذ خطوات واضحة لإنفاذ قرارات الشرعية الدولية بخصوص الأطراف الإقليمية والخارجية المتورطة في حرب السودان. ودون ذلك، سيكون من الصعوبة بمكان، إن لم يكن من المستحيل، إيقاف الحرب.
أما بخصوص الكارثة الإنسانية الناتجة عن الحرب، فإن العالم يحتاج إلى جدية أكبر في توفير المساعدات الإنسانية. كما يحتاج إلى استخدام قواعد القانون الدولي، وبالأخص مبدأ "المسؤولية في الحماية" (Responsibility to Protect)، لمنع الأطراف المتحاربة من استخدام المساعدات الإنسانية كورقة تفاوضية، وهو ما شهدناه يحدث مرارا وتكرارا منذ اندلاع شرارة الحرب الأولى.
إن السودانيين اليوم في أمسّ الحاجة إلى كل جهد ومبادرة تعينهم على استعادة الاستقرار والسلام إلى ربوع بلادهم. لكن الجهود الدولية لن تثمر استراتيجية واضحة تتعامل مع الواقع بعمق، بعيدا عن السطحية والخفة في معالجة تعقيدات الأزمة السودانية. ولن يقبل السودانيون مرة أخرى أن يعيشوا تحت ظل الظروف التي أفرزت الحرب ودمرت بلادهم وشردتهم في أصقاع الأرض. وعلى المجتمع الدولي أن يتوقف عن محاولات إنتاج معادلات "قسمة السلطة" ومحاولات إرضاء حاملي السلاح، وأن ينظر بتمعن وواقعية إلى الأوضاع في السودان بغرض تطوير منهج لتدخل إيجابي يحقق تطلعات وآمال الشعب السوداني، وليس مصالح ومطامع الساسة وحاملي السلاح والجهات التي تؤجج نيران الحرب وتزيد من لهيبها. إن السودانيين ليسوا "سطرا في قصيدة الحرب" ولعل العالم يتذكر ذلك وهو يتعامل مع مأساتهم.