حكم تاريخي ضد "غوغل"
أصدرت محكمة فيديرالية أميركية حكما تاريخيا ضد شركة "غوغل" العملاقة، متهمة إياها بالاحتكار في مجال البحث على الإنترنت. جاء هذا القرار ليمثل تحولاً كبيرا في كيفية تعامل السلطات مع الشركات التكنولوجية الكبرى، ويثير التساؤلات حول مستقبل هذه الشركات في ظل مواجهة قانونية قد تعيد تشكيل المشهد الرقمي. هذا الحكم يأتي بعد تحقيقات ومرافعات استمرت لسنوات، ويشير إلى إمكان فرض قيود جديدة على نفوذ "غوغل" وغيرها من عمالقة التكنولوجيا، مما قد يؤدي إلى تغييرات جذرية في طريقة إدارة هذه الشركات لأعمالها.
وجاء الحكم التاريخي؛ الذي أصدره القاضي الفيديرالي أميت ميهتا من المحكمة الأميركية لمقاطعة كولومبيا في الخامس من أغسطس/آب الجاري في 277 صفحة، يدين شركة "غوغل" بدفع مليارات الدولارات سنويا لشركات أخرى مثل شركة "أبل" و"سامسونغ" لجعل شركة "غوغل" المسؤولة عن عمليات البحث على أجهزة وبرامج هذه الشركات.
وذكر القاضي أن "غوغل" دفعت مبلغ 26.3 مليار دولار في عام 2021 للهيمنة على سوق محركات البحث وتحقيق تقدم على منافسيها، لتصل الآن إلى السيطرة على نحو 90٪ من عمليات البحث عبر الإنترنت، و95٪ من عمليات البحث على الهواتف الذكية. وقد عنون القاضي حكمه بأن "غوغل محتكرة، وتصرفت على هذا النحو للحفاظ على احتكارها".
ماذا يعني الاحتكار؟
احتكار "غوغل" لمحركات البحث يعني أن الشركة تسيطر على الجزء الأكبر من سوق محركات البحث على الإنترنت بشكل يجعل من الصعب على المنافسين الأصغر، الوجود أو النمو. بشكل أدق، تستخدم "غوغل" نفوذها الكبير لضمان أنها المحرك الافتراضي للبحث على أجهزة المستخدمين، من خلال اتفاقيات مدفوعة مع شركات مثل "أبل" و"سامسونغ"، مما يؤدي إلى تضييق الفرص أمام المنافسين لدخول السوق أو تقديم بدائل منافسة.
وهذا الاحتكار يعني أيضا أن "غوغل" تجمع كميات هائلة من البيانات من المستخدمين، مما يعزز قدرتها على تحسين خدماتها بشكل يفوق قدرة المنافسين. نتيجة لذلك، يتم تعزيز مكانة "غوغل" بشكل دائم، مما يصعب على أي شركة أخرى التنافس بفعالية معها.
ويؤثر الاحتكار سلبا على الابتكار في السوق ويؤدي إلى تقليل الخيارات المتاحة أمام المستهلكين، كما يمكن أن يؤدي إلى رفع أسعار الإعلانات على الإنترنت بسبب هيمنة "غوغل" على هذه السوق.
بدأت القضية في عام 2020 عندما بدأت وزارة العدل الأميركية التحقيق في ممارسات "غوغل" غير القانونية والاحتكارية. وتم تداول القضية في المحكمة لمدة 10 أسابيع انتهت في شهر مايو/أيار الماضي، وتم رفع القضية للحكم بها.
وشكل الحكم صفعة قوية على وجه شركة "غوغل"، التي تعهدت بنقض الحكم؛ رغم أن محاولات النقض لن تنفي عنه كونه أهم حكم في قضية احتكار خلال آخر عشرين عاما.
ومع أن الحكم الصادر لم يشمل خطوات محددة لمعالجة سلوك "غوغل"، فإن القاضي ميهتا سيقرر في مرحلة لاحقة تلك الإجراءات، التي قد تشمل إلزام الشركة تغيير طريقة عملها أو بيع جزء من أعمالها.
"غوغل" وقضيتان للاحتكار من ترمب وبايدن
بدأت القضية عند تقديم بلاغ من 35 ولاية أميركية تتهم "غوغل" بممارسات احتكارية. إثر ذلك، بدأت وزارة العدل الأميركية، تحت إدارة الرئيس السابق دونالد ترمب بتحقيق استمر نحوا من أربع سنوات في ممارسات "غوغل" الاحتكارية، وفقا للحكم الصادر أخيرا.
وركزت "غوغل" على دفع مبالغ طائلة للشركات التكنولوجية لتجعل من متصفح "غوغل" المتصفح الأساس على الأجهزة الإلكترونية، بما في ذلك الهواتف المحمولة والأجهزة اللوحية، خاصة من شركات مثل "أبل" و"سامسونغ".
ووفقا لتحليل البيانات من شركة "سيملر ويب" المعنية بتتبع احصائيات الإنترنت والبحث ومشاهدات المواقع، فإن "غوغل" تسيطر على 90٪ من سوق البحث عبر الإنترنت في الولايات المتحدة، ونحو 91٪ من سوق البحث العالمي.
في الوقت ذاته، دافعت "غوغل" عن نفسها نافية أي ممارسات احتكارية، مؤكدة أن التنافس عبر الإنترنت متاح للجميع. ومن المتوقع أن تقوم "غوغل" بنقض الحكم، وهي عملية قد تستغرق شهورا أو حتى أعواما للوصول إلى الحكم النهائي.
تستفيد "غوغل" من جعل محرك البحث الخاص بها المحرك الأساس المثبت مسبقا على الأجهزة والهواتف المحمولة، لأنها تعلم أن العديد من الأشخاص لا يقومون بتغيير هذه الإعدادات لاستخدام محرك بحث آخر.
وبفضل هذه الخاصية، تعالج "غوغل" مليارات عمليات البحث يوميا، مما يدر لها أرباحا مالية كبيرة، والأهم من ذلك، أنها تستخدم هذا الكم الهائل من البيانات لتحسين محركها بشكل أفضل وأكثر فعالية من المحركات الأخرى. بمعنى آخر، استخدام محرك البحث "غوغل" كخيار افتراضي يضر بالمنافسة ويحد من خيارات المستخدمين بإجبارهم على استخدام "غوغل" دون إعلامهم مسبقا أو على الأقل منحهم الفرصة لاختيار محرك البحث الذي يفضلونه.
تواجه "غوغل" أيضا قضية مماثلة تتهمها بالممارسات الاحتكارية نفسها، حيث تم رفع القضية الثانية ضدها في المحكمة الأميركية للمنطقة الشرقية من ولاية فرجينيا. هذه المرة، حركت الدعوى إدارة الرئيس بايدن ضد الشركة نفسها للممارسات الاحتكارية نفسها، في رسالة واضحة تفيد بأن "غوغل" تواجه مأزقا قانونيا كبيرا، مع توافق إدارتي الحزبين الجمهوري والديمقراطي على أن ممارساتها احتكارية.
وفقا لوزارة العدل الأميركية، فإن "غوغل" لا تتحكم فقط في المنصات التي يستخدمها الناشرون لبيع الإعلانات على الإنترنت، بل تسيطر أيضا على أدوات الإعلانات.
وخلال المحاكمة، شهد الرئيس التنفيذي لشركة "مايكروسوفت" ساتيا ناديلا، معبراً عن قلقه من أن هيمنة "غوغل" خلقت ما وصفه بـ"شبكة غوغل"، واصفاً علاقتها مع "أبل" بالاحتكارية. وأوضح ناديلا أنه إذا لم يتم كبح جماح "غوغل"، فقد تصبح مهيمنة في سباق تطوير الذكاء الاصطناعي.
على الجانب الآخر، دافع الرئيس التنفيذي لـ"غوغل" سوندار بيتشاي عن موقف شركته مؤكداً أنها تقدم خدمة أفضل للمستهلكين، مشيراً إلى أن المستخدمين يختارون البحث عبر "غوغل" لأنها الأكثر فائدة، وأن الشركة استمرت في الاستثمار لتحسين محرك البحث.
وتشير الوزارة إلى البيئة الاحتكارية التي خلقتها "غوغل" في سوق الإعلانات الرقمية، حيث تمتلك العديد من التطبيقات والأدوات المهمة، منها "غوغل أد مانجر"، وهي منصة تستخدم للبيع والشراء عبر الإنترنت، و"غوغل أدز" وهو تطبيق يستخدم لشراء مساحات إعلانية على المواقع المختلفة، بالإضافة إلى "غوغل أد أكستشينج"، الذي يعد منصة ربط عبر الإنترنت بين بائعي المساحات الإعلانية والمعلنين الذين يبحثون عن شرائها.
تملك "غوغل" ما يكفي لجعلها تسيطر على سوق الإعلانات الرقمية عبر الإنترنت، مما يصعّب الأمر على منافسيها، ليس فقط في الولايات المتحدة، ولكن أيضا في المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، حيث تواجه "غوغل" قضايا مماثلة تتعلق بممارسات احتكارية.
ووفقا لتقرير سنوي من شركة "ألفابيت" الشركة الأم لـ"غوغل"، حققت "غوغل" نحو 209 مليار دولار في عام 2021، بينما حققت أقرب منافسيها، شركة "ميتا" المالكة لتطبيقات "فيسبوك" و"إنستغرام"، نحو 115 مليار دولار في العام نفسه.
"غوغل" الأولى وليست الأخيرة
الحكم التاريخي ضد شركة "غوغل" يفتح الباب أمام التدقيق في ممارسات الشركات التكنولوجية الأخرى مثل "أمازون"، و"أبل"، و"ميتا"، حيث تواجه كل منها دعاوى قضائية بتهم ممارسات احتكارية تضر بالسوق وتجعل المستخدمين ضحايا لهذه الشركات.
ففي سبتمبر/أيلول من عام 2023، رفعت الهيئة الفيديرالية للتجارة بجانب 17 ولاية أميركية دعوى قضائية ضد "أمازون"، تتهمها بممارسات احتكارية، من بينها الضغط على البائعين في منصتها لعدم تقديم السلع نفسها بأسعار مختلفة على منصات أخرى، مما أدى إلى ارتفاع أسعار سلع معينة بشكل مبالغ فيه نتيجة لاحتكار "أمازون" لها.
أما شركة "أبل"، فتواجه دعوى احتكار رفعتها في مارس/آذار الماضي 16 ولاية أميركية، تتهمها باستغلال نفوذها الكبير والمتزايد لجعل المستخدمين يعتمدون على منتجاتها بشكل غير عادل، مما يضر بالمنافسة في السوق التكنولوجية. وذكرت الدعوى، المكونة من 88 صفحة، أن "أبل" منعت الشركات الأخرى من تقديم خدمات مثل المحفظة الإلكترونية الرقمية التي تقدمها "أبل"، مما يصعب على المستخدمين التوجه إلى شركات أو هواتف أخرى لا تقدم هذه الخدمة.
أما شركة "ميتا"، فقد واجهت دعوى قضائية تتعلق بشرائها تطبيق "إنستغرام" وتطبيق الرسائل الشهير و"اتساب"، حيث اتُهمت الشركة الأم بالاحتكار وتقليل البدائل الخاصة بتطبيقات التواصل الاجتماعي أمام المستخدمين. ودافعت "ميتا" عن قرار الشراء واعتبرته استثمارا مهما لتطوير تطبيقات التواصل الاجتماعي.
ويرى بعض الخبراء القانونيين أن هذا القرار قد يساعد في وضع سابقة قانونية للدعاوى القضائية الحكومية ضد شركات التكنولوجيا الكبرى الأخرى، مما يعزز محاولات الحكومة لاستخدام قوانين مكافحة الاحتكار لمواجهة هيمنة هذه الشركات.
قضايا الاحتكار بين تقييد الإبداع وحقوق المستخدمين
يُعد الحكم في قضية "غوغل" الأول من نوعه منذ حكم المحكمة الفيديرالية ضد شركة "مايكروسوفت" في عام 2000 في شأن ممارساتها الاحتكارية في ما يتعلق بنظام التشغيل "ويندوز". يعتبر هذا الحكم مهما لعدة أسباب، أهمها أنه غيّر فهم الاحتكار في الأوساط السياسية بالولايات المتحدة، حيث كان يُنظر إليه سابقا فقط من زاوية تأثيره على ارتفاع أسعار السلع.
إذا نظرنا إلى شركة "غوغل" ومنتجاتها، فسنجد أن معظم هذه المنتجات تُقدَّم مجانا في الغالب، وإذا رغب المستخدم في الحصول على خدمات إضافية، يكون ذلك مقابل اشتراك شهري، مثل خدمات البريد الإلكتروني الشهير "جيميل"... إذن، لماذا تم الحكم على "غوغل" بالاحتكار رغم أنها تقدم خدمات مجانية في كثير من الأحيان؟
الإجابة تكمن في أن "غوغل" سيطرت على سوق البحث واستفادت من هذه السيطرة لتحقيق أرباح مالية ضخمة. هذه الأرباح تأتي من الكم الهائل من عمليات البحث التي تُجرى يوميا عبر محركها، مما يمكنها من الحصول على البيانات والمعلومات اللازمة لتطوير محركها. وبطبيعة الحال، مع الاستخدام الواسع لمحركها، تأتي الإعلانات بحجم كبير.
هذا الحكم غيّر مفهوم الاحتكار من مجرد احتكار يؤدي إلى ارتفاع أسعار الخدمات إلى احتكار يتعلق بخدمات تقدم مجانا. كما شملت الممارسات الاحتكارية أن "غوغل" تعاقدت مع مزودي الخدمات لإعطاء الأفضلية لمحركها، مما يشكل خداعا للمستخدمين ويحد من خياراتهم، حيث لا يُمنح المستخدم أدوات أخرى ليختار منها، بل يتم فرض الخيار عليه.
تدافع "غوغل" عن سياستها بالقول إن الإبداع على الإنترنت مكفول للجميع، ومع تطور تطبيقات الذكاء الاصطناعي وانتشار استخدام تطبيق "تيك توك"، أصبح الإنترنت بيئة مفتوحة لجميع الشركات، ويبقى القرار النهائي للمستخدم. ولكن هذا ليس ما رآه القاضي ميهتا عندما نظر في هذه القضية، حيث ذكر في قراره أن "كثيرا من المستخدمين يلتزمون ببساطة استخدام محرك البحث الافتراضي، وتتلقى غوغل مليارات الاستفسارات يوميا عبر تلك النقطة".
يمثل الحكم ضد "غوغل" لحظة فارقة في تاريخ تنظيم الأسواق الرقمية، حيث يُبرز تعقيد وتطوّر مفهوم الاحتكار في عصر التكنولوجيا الحديثة. لم يعد الاحتكار مقتصرا على رفع الأسعار أو السيطرة على السلع، بل امتد ليشمل هيمنة الشركات على بيانات المستخدمين وتوجيه اختياراتهم دون وعي منهم. إن قدرة "غوغل" على تحويل بيانات البحث المجانية إلى مصدر ضخم للأرباح عبر الإعلانات، بالإضافة إلى استخدام نفوذها لضمان بقاء محركها الخيار الأول للمستخدمين، تُظهر كيف يمكن للاحتكار أن يتجلى بطرق غير تقليدية.
هذا الحكم ليس مجرد تحد قانوني لـ"غوغل"، بل هو إشارة قوية إلى أن السياسات التنظيمية بحاجة إلى التكيّف مع الواقع الرقمي المعاصر، حيث تصبح حماية المنافسة وضمان خيارات حقيقية للمستخدمين أكثر أهمية من أي وقت مضى.