أزمة المرور في عمان: تحليل شامل وحلول استراتيجية

المهندس رائد الصعوب

في صباح صيفي هادئ، اجتمعت مع معالي الدكتور صالح إرشيدات، نائب رئيس الوزراء الأسبق، حيث تناولنا موضوع أزمة المرور الخانقة التي تشهدها عمان. أكد معاليه أن هذه الأزمة ليست مجرد نتيجة لزيادة عدد السيارات، بل هي نتيجة لتداخل مجموعة من العوامل المتعلقة بالبنية التحتية والتنظيم العمراني وسوق استيراد المركبات.

 التضخم الكبير في عدد المركبات

أشار الدكتور إرشيدات إلى أن "عمان كانت مصممة لاستيعاب حوالي 750,000 سيارة، ولكن اليوم نجد أنفسنا أمام أكثر من 1.5 مليون سيارة في شوارع المدينة، أي ضعف ما تستوعبه البنية التحتية الحالية." وأضاف أن "الارتفاع الكبير في عدد المركبات يعود جزئياً إلى ضعف النقل العام، مما يضطر المواطنين إلى شراء سياراتهم الخاصة للتنقل بين أرجاء العاصمة." وأوضح أن “المواطن الأردني، كبقية المواطنين حول العالم، يسعى للراحة في تنقلاته اليومية. وعندما تكون الحافلات غير كافية أو غير مريحة، يصبح امتلاك السيارة الخاصة ضرورة لا رفاهية.”

وعلى المستوى الوطني، بلغ عدد السيارات في الأردن 2.12 مليون سيارة، مما يجعل البلاد تواجه تحديات كبيرة تتعلق بتنظيم حركة المرور والحد من التلوث. استناداً إلى دراسة الدكتور إبراهيم بدران، فإن هذا التضخم في عدد السيارات ساهم في رفع نسبة الانبعاثات الكربونية إلى 65% من مجمل الانبعاثات في الأردن، وهو ما يفاقم المشاكل البيئية ويزيد من التلوث، خاصة في المدن الكبرى مثل عمان.

 تحديات التخطيط العمراني

تطرق الدكتور إرشيدات إلى أن منطقة عبدون كانت مخططة لتكون ذات كثافة سكانية منخفضة، مع تنظيم يسمح ببناء طابقين وروف فقط. ولكن ميلان الأرض في المنطقة سمح ببناء طوابق إضافية بشكل غير مرخص في بعض الأحيان، مما أدى إلى زيادة الكثافة السكانية وعدد السيارات في المنطقة. وتساءل: “كيف يمكن أن نحل مشكلة الاكتظاظ المروري إذا كانت تجاوزات التنظيم العمراني تزيد من تعقيد الوضع؟”

 التأثيرات الاقتصادية والبيئية للنقل

وفقاً لدراسة الدكتور إبراهيم بدران، فإن الاعتماد الكبير على المركبات الفردية أدى إلى تفاقم خمسة جوانب خطيرة:

1. **الازدحام المروري**: يسبب اختناقاً كبيراً في شوارع العاصمة والمدن الكبرى.

2. **طول زمن الرحلة**: يؤدي إلى زيادة زمن الرحلة وتكاليف الوقود.

3. **حوادث الطرق**: يحتل الأردن المرتبة الثالثة عالمياً في حوادث الطرق، بتكلفة تتجاوز 600 مليون دينار سنوياً.

4. **ارتفاع تكلفة النقل**: يستهلك قطاع النقل 48% من إجمالي الطاقة المستهلكة في المملكة، مما يؤثر سلباً على تنافسية المنتجات الأردنية.

5. **زيادة التلوث البيئي**: ينتج عن الاستخدام المكثف للمركبات الفردية ارتفاع كبير في الانبعاثات الغازية، مما يؤثر على صحة المواطنين.

 الحاجة إلى استراتيجية وطنية شاملة

أكد الدكتور إرشيدات على أهمية تطوير جذري لقطاع النقل في الأردن، مشيراً إلى أن “القطاع يحتاج إلى رؤية مستقبلية تربط بين النقل والطاقة والبيئة والاقتصاد، لتصبح قاطرة للنمو الاقتصادي وتحسين جودة الحياة.”

وشدد معاليه على ضرورة تنظيم سوق استيراد المركبات، قائلاً: “إذا استمر الوضع الحالي دون تنظيم، سنواجه مشكلة أكبر في المستقبل القريب. يجب وضع سياسات صارمة لتنظيم استيراد السيارات بحيث تتماشى مع قدرة البنية التحتية على استيعابها وتلبية احتياجات النقل العام.”

 السكك الحديدية كحل مستدام

استناداً إلى دراسة الدكتور إبراهيم بدران، أكد الدكتور إرشيدات على أهمية السكة الحديد كحل طويل الأمد لمشاكل النقل في الأردن. قال معاليه: "السكة الحديد هي الحل الأمثل لتخفيف الضغط على الطرق وتقليل الاعتماد على السيارات الخاصة، سواء لنقل الأشخاص أو البضائع." وأوضح أن “تكلفة تطوير السكة الحديد أصبحت معقولة الآن، حيث يمكن بناء الخط الرئيسي من العقبة إلى الرمثا بتكلفة تصل إلى 2.5 مليار دينار. يمكن تمويل هذا المشروع من خلال شركات مساهمة وطنية تجمع بين الحكومة والقطاع الخاص.”

 حلول مقترحة للأزمة

انتهى الحديث بوضع بعض الحلول العملية التي يمكن أن تسهم في تخفيف حدة الأزمة:

 حلول قصيرة المدى:

- **تحسين إدارة المرور**: استخدام نظام ذكي يعتمد على التكنولوجيا الحديثة لتحليل حركة المرور وتحسينها.

- **تعزيز النقل العام**: زيادة عدد الحافلات وتحسين جودتها لتصبح بديلاً جذاباً للسيارات الخاصة.

حلول متوسطة المدى:

- **مراجعة التنظيم العمراني**: إعادة تقييم المناطق ذات الكثافة العالية وضمان التزام المطورين بالتخطيط العمراني.

- **تطوير مواقف السيارات**: إنشاء مواقف سيارات متعددة الطوابق لتخفيف الضغط على الشوارع.

- **استثمار في السكة الحديد**: تطوير شبكة سكة حديد داخلية تربط بين المدن والمحافظات لتخفيف العبء على الطرق.

 حلول طويلة المدى:

- **تطوير شبكة نقل متكاملة**: بناء شبكة تشمل المترو والترام والسكة الحديد لتقليل الاعتماد على السيارات الخاصة.

- **توسيع التنمية الحضرية**: تشجيع التوسع العمراني خارج العاصمة وإنشاء مدن جديدة مزودة بالبنية التحتية اللازمة.

 إضافة مقترح بناء جسور علوية

اقترح الدكتور صالح إرشيدات إنشاء جسور علوية محلقة فوق بعض الشوارع الرئيسية كحل طويل الأمد. هذه الجسور يمكن أن تكون مسارات سريعة تنقل السيارات من مناطق الازدحام مثل الدوار الخامس في جبل عمان إلى شارع الاستقلال بعد دوار الداخلية، دون الحاجة للتوقف عند التقاطعات. كما اقترح معاليه إنشاء شارع علوي محلق آخر يمتد من منطقة عبدون بالقرب من تاج مول ليتصل مباشرة بشارع الاستقلال.

وأشار معاليه إلى أن هذه المشاريع ستكون مكلفة وتتطلب برنامجاً تنفيذياً ومالياً متقدماً. فهذه الحلول من شأنها تخفيف الضغط عن الشوارع المزدحمة وتوفير تدفق مروري سلس، لكنها تحتاج إلى تخطيط مالي دقيق وتنفيذ مدروس لضمان نجاحها.

 الخلاصة

إن تداعيات كلفة ملف المرور العالية على الاقتصاد الوطني والبيئي والحياتي وتشابك اللاعبون الأساسيون مع الخدمات المساندة الأخرى للمرور ومع سير الحياة اليومية تتطلب تبني الدولة دعم هذا الملف والتنسيق مع مكوناته المختلفة. أزمة المرور في عمان تتطلب حلولاً جذرية ومستدامة تأخذ في الاعتبار النمو السكاني وزيادة عدد السيارات. يجب أن تتضمن هذه الاستراتيجية حلولاً قصيرة ومتوسطة وطويلة المدى، مع تنظيم سوق استيراد المركبات وتطوير شبكة نقل متكاملة. إن مستقبل عمان يعتمد على قدرتنا على تجاوز هذه التحديات وتحسين جودة الحياة لسكانها، وإعادة التوازن إلى بنيتها التحتية.