إيران... مناورات الرد على إسرائيل ومفاوضات غزة
إيلي القصيفي
حولت المجزرة الإسرائيلية في "مدرسة التابعين" فجر السبت الأنظار مجددا إلى داخل قطاع غزة، بعدما كانت عمليتا اغتيال فؤاد شكر وإسماعيل هنية والإنذار بالتصعيد الإقليمي قد حرفتا الأنظار نسبيا عن الحرب الإسرائيلية هناك. عادت الأنظار إلى حيث يجب أن تكون، أي إلى الساحة المركزية للحرب الدائرة منذ عشرة أشهر. وهذا ما كان أكده الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصرالله في خطابه الأخير بالقول إن "محور المقاومة لن يسمح بهزيمة (حماس) في القطاع وفق أي سيناريو". وبالتالي فإن مغزى كلامه أنّ كل استراتيجية "محور المقاومة" راهنا قائمة بشكل أساسي على منع الهزيمة الكاملة لـ"حماس"، في وقت لا ينفك بنيامين نتنياهو يتوعد الحركة الفلسطينية بالقضاء عليها، وهذا لبّ الصراع حاليا.
هذا معطى رئيس في فهم سياسات كل من إيران و"حزب الله" في الرد على اغتيال شكر وهنية، باعتبار أن هذا الرد المتوقع يتم التعامل معه في توقيته وحجمه على أنه جزء من استراتيجية منع هزيمة "حماس". فإذا كانت إيران وأيضا "حزب الله" لا يستطيعان "بلع" هاتين الضربتين في سياق ما يسمى "توازن الردع" مع إسرائيل، فإنهما يدرسان ردهما ويعيّنون حجمه وتوقيته بالقياس إلى تأثيره في مجريات المعركة داخل قطاع غزة، وأيضا وهذا هو الأهم راهنا بالقياس إلى تأثيره في مجريات المفاوضات المنتظرة بين إسرائيل و"حماس" في 15 أغسطس/آب الجاري.
فما يهمّ كلا من إيران و"حزب الله" و"حماس" في الوقت الراهن هو التوصل إلى هدنة في قطاع غزة تسمح لكل منهما بالتقاط أنفاسه والتحضير للمرحلة المقبلة، وهو ما عبرت عنه بعثة إيران في الأمم المتحدة بالقول إن "أولويتنا هي التوصل لوقف إطلاق نار دائم في غزة". وإذا كان هذا الموقف الإيراني لا ينفك يتكرر منذ بدء الحرب فإنه في ظل الظروف الإيرانية والإقليمية الراهنة يكتسب أهمية خاصة. فإيران في مطلع عهد رئاسي جديد ويبدو أنّ هناك رهانا إيرانيا داخليا على نجاح الرئيس بزشكيان وفريقه في فتح نوافذ داخلية وخارجية تمكن طهران من تخفيف أزمتها الاقتصادية، الأمر الذي يصبح ملحا أكثر فأكثر في ظلّ المسافة الآخذة في الاتساع بين الشارع والحكم. وهذا أمر من الواضح أنه يدخل في حسابات الرد الإيراني على اغتيال إسماعيل هنية في طهران على قاعدة أن هذا الرد لا يجب أن يورط إيران في تصعيد مفتوح مع إسرائيل "يغضب" الولايات المتحدة، وخصوصا بعد صدور تحذيرات أميركية لإيران من عواقب على اقتصادها واستقرار حكومتها إذا شنت هجوما كبيرا على إسرائيل. أي إن واشنطن تهدد طهران بتأزيم أولويتها الداخلية في تعافي الاقتصاد.
للتسجيل في النشرة البريدية الاسبوعية
احصل على أفضل ما تقدمه "المجلة" مباشرة الى بريدك.
تخضع اشتراكات الرسائل الإخبارية الخاصة بك لقواعد الخصوصية والشروط الخاصة بـ “المجلة".
التروي الإيراني في الرد على "إهانة الكرامة الوطنية" ليس مرده فقط إلى الحسابات الداخلية الإيرانية، بل أيضا إلى نظرة طهران الاستراتيجية التي تتركز بشكل رئيس على الحؤول دون هزيمة "حماس"
كذلك ومن جانب آخر ليس قليل الدلالة وفي هذا التوقيت تحديدا تسمية عباس عراقجي وزيرا للخارجية في الحكومة الإيرانية الجديدة. فعراقجي كان المساعد الرئيس لوزير الخارجية السابق جواد ظريف في المفاوضات للتوصل إلى الاتفاق النووي في 2015، وهو معروف جدا لدى الأميركيين والأوروبيين، وبالتالي فإن تعيينه رسالة للغرب بأن طهران مستعدة لفتح مسارات مختلفة وجديدة معه، وهذا تطور لا يمكن عزله، ولو جزئيا، عن تعامل إيران مع الرد على إسرائيل. أي إن تعيينه الآن يدخل في المدى القريب في دائرة الحسابات الإيرانية المتصلة بهذا الرد واحتمالات التصعيد الإقليمي.
واللافت أن "الحرس الثوري" نفسه هو جزء من "حسابات التأني" الإيرانية على ما يظهر من تصريحات قياداته وإن كان يؤكد حتمية الرد. لكن هذا التروي الإيراني في الرد على "إهانة الكرامة الوطنية" ليس مرده فقط إلى الحسابات الداخلية الإيرانية، بل أيضا إلى نظرة طهران الاستراتيجية إلى الحرب في المنطقة والتي تتركز بشكل رئيس على منع الهزيمة الكاملة لـ"حماس". وبالتالي فإن الكلام الإيراني عن العزل بين الرد على اغتيال هنية وبين مفاوضات الهدنة في غزة هو ترجمة واضحة لهدف إيران الرئيس راهنا في إفساح المجال أمام التوصل في أقرب وقت ممكن إلى هدنة في القطاع الفلسطيني المدمر، وذلك لهدفين، الأول الرهان على أن تخلق هذه الهدنة مسارا وديناميكية نحو وقف دائم لإطلاق النار لا تستطيع إسرائيل التفلت منه، والثاني لأن إيران تريد أن تحمّل إسرائيل مسؤولية إفشال أي هدنة، وتحديدا أمام الأميركيين.
وهنا يطرح سؤال بسياق مغاير: ماذا لو كان رد إيران و"حزب الله" وحتى الحوثيين المتوقع هدفه الضغط على إسرائيل للتنازل في المفاوضات؟ هذا يخلق احتمالا أكبر لتنفيذ الرد قبل 15 أغسطس، في وقت تسربت فيه معلومات من داخل طهران تفيد بأن الأميركيين تمنوا على الإيرانيين عبر "القنوات الوسيطة والمباشرة" تأخير ردهم بضعة أسابيع (couple of weeks).
والحال أن استحضار التغريدة الأخيرة وبالعبرية لعلي شامخاني، مستشار المرشد الإيراني للشؤون السياسية، عن أن الظروف باتت مهيأة لإنزال أشد العقاب بإسرائيل، توحي بهذا الاتجاه، لكن مع ذلك لا يمكن الجزم بأن الرد سيكون حكما خلال الساعات أو الأيام القليلة المقبلة. فحتى لو كان الهدف الإيراني هو الضغط على إسرائيل قبل المفاوضات فإنّها تفضل ترك هذه المهمة للأميركيين أنفسهم وتجنيب نفسها الرد في توقيت غير آمن، خصوصا أن "مجزرة الفجر" في مدرسة التابعين تعيد تظهير "الحساسية" الأميركية والغربية تجاه الضحايا المدنيين الفلسطينيين جراء القصف الإسرائيلي في غزة.
رغم تعب جميع الأطراف المشاركة في الحرب فإن أيا منهم لا يستطيع الخروج من المواجهة الآن، لأن أي خروج من هذا النوع هو بمثابة استسلام بل وهزيمة
من جانب آخر يمكن اعتبار الضعط الأميركي لإعادة استئناف المفاوضات- والذي تم التعبير عنه بشكل رئيس في البيان الثلاثي الصادر عن واشنطن والقاهرة والدوحة– جزءا من محاولة الإدارة الأميركية في احتواء رد "حزب الله" وإيران على اغتيال شكر وهنية. أي إن واشنطن "رمت طعما" إليهما لا يستطيعان تجاهله لأنه يحاكي هدفهما الرئيس والتكتي في المرحلة الراهنة ألا وهو التوصل إلى تهدئة في غزة ولو مرحلية ودون أفق التسوية الشاملة والتي لا تريدها لا إيران ولا إسرائيل.
وغالب الظن أنّ "حماس" نفسها تريد هذه الهدنة بأسرع وقت لتخفيف الضغط عنها بعد أشهر طويلة وقاسية من الحرب. ولعل النقطة التي يجب أخذها في الحسبان عند تقدير موقف "حماس" وبالأخص رئيسها الجديد يحيى السنوار راهنا، أنّ ما كان يحكى عن رهان الأخير على توسع الحرب لتشمل "جبهات الإسناد" وبالتالي تخفيف الضغط عن "حماس" داخل قطاع غزة بات محفوفا بالمخاطر مع ازدياد اليقين بعدم رغبة "محور المقاومة" في الانجرار إلى حرب شاملة وإبقاء المواجهات مع إسرائيل في إطار "حرب الاستنزاف" التي تضغط على تل أبيب وتمنعها من تثمير "إنجازاتها" ضد "محور المقاومة" في استراتيجية إنهاء الحرب وتحقيق أهدافها منها وفي مقدمتها الهزيمة التامة لـ"حماس" واستعادة الرهائن وعودة المستوطنين إلى شمال إسرائيل وخلق واقع أمني جديد على الحدود مع لبنان يتمثل في ضمان تراجع "حزب الله" إلى ما وراء نهر الليطاني جنوبا.
وهذا كله يصب في الهدف الرئيس لإسرائيل والمتمثل في ترميم ردعها بعد اهتزازه بقوة يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وهو ما يعبر عنه نتنياهو بالقول كما نقلت عنه الصحافة الإسرائيلية إن "الهدف الأكبر والأكثر أهمية هو استعادة مبدأ الردع الإسرائيلي".
لذلك كله فإن المشهد في قطاع غزة والمنطقة لا يزال معقدا جدا، فبالرغم من تعب جميع الأطراف المشاركة في الحرب فإن أيا منهم لا يستطيع الخروج من المواجهة الآن، لأن أي خروج من هذا النوع هو بمثابة استسلام بل وهزيمة.
وهذا ينطبق على نتنياهو المصر على استكمال الحرب حتى لو تم التوصل إلى هدنة مع "حماس"، وقد نجح في انتزاع موافقة أميركية على استئناف الحرب خلال المفاوضات على مراحل "مقترح بايدن". فحتى لو كان نتنياهو يتعرض لضغوط أميركية فهو حتى الآن قادر على الالتفاف عليها بل إنه يحاول باستمرار وضع أميركا أمام أمر واقع لا يمكنها التفلت منه. كما أن تصريحه لمجلة "تايم" الذي قال فيه: "إننا لا نواجه (حماس) فقط، بل نواجه محورا إيرانيا كاملا، وندرك أنه يتعيّن علينا تنظيم أنفسنا للدفاع على نطاق أوسع"، هو تصريح موجه إلى الأميركيين لتأكيد ضرورة دعمهم لإسرائيل في مواجهة إيران. ولا شك أن الكثير من الأحداث في المنطقة سيتوقف في المرحلة المقبلة على طبيعة الاستراتيجية الأميركية في التعامل مع إيران.
الحرب- أيا تكن وتيرتها- لم تنته بعد وليس هناك مؤشرات أكيدة إلى قرب انتهائها في الأسابيع أو الأشهر القليلة المقبلة
على المقلب الآخر، فإن السنوار مهتم بتأمين الشروط السياسية والاقتصادية التي تمنع تفكك حركته، ولذلك فإلى جانب المساعي لمنع إنهيار "حماس" من الناحية العسكرية في غزة، يفترض أنه يدفع باتجاه تسوية مع حركة "فتح" والسلطة الفلسطينية في إطار تأمين استمرارية "حماس" السياسية في ظل الضغط العسكري والسياسي الذي تواجهه.
أما "حزب الله" وإن كان يهدد برد قاس و"مدروس جدا" على إسرائيل، فهو يرغب في هدنة في قطاع غزة تنسحب على المواجهات بينه وبين إسرائيل، لأنه ورغم الحديث عن انفصال رده عن رد إيران، ورغم بعض الامتعاض المعبر عنه داخل بيئته من "الصبر الاستراتيجي" الإيراني وتأخر رد طهران، فهو يتحرك ضمن الاستراتيجية الإيرانية في التعامل مع الحرب في المنطقة والتي تنصب أساسا على منع هزيمة "حماس"، لأن ذلك سيجعل إسرائيل أكثر جرأة على التعامل بالمثل مع سائر التنظيمات الموالية لإيران في المنطقة وعلى رأسهم "حزب الله"، وهو ما ألمح إليه نصرالله في خطابه الأخير.
لكن نصرالله وعلى الرغم من إيحائه بأن "حزب الله" قد يكون مضطرا لعدم مراعاة الحسابات اللبنانية في حال فرضت الحرب عليه، فمن المؤكد أن أولويته تجنب وقوع الحرب الشاملة للأسباب والحسابات اللبنانية المتصلة بالوضع اللبناني المهترئ خدماتيا واقتصاديا والذي لا يتحمل أبدا أعباء حرب من هذا النوع.
وفي المحصلة، فإن الحرب- أيا تكن وتيرتها- لم تنته بعد وليس هناك مؤشرات أكيدة إلى قرب انتهائها في الأسابيع أو الأشهر القليلة القادمة، لأن أيا من الأطراف لا يمكنه الخروج منها ولا يمكنه الآن إعلان انتصاره فيها. إنها مواجهة مفتوحة ولا تشبه أيا من سابقاتها، لأن نتائجها ستحدد خريطة النفوذ في المنطقة لسنوات بل ولعقود، ولذلك فإن الصراع محتدم وقاس ولا يمكن التنبؤ بمآلاته ومفاجآته الكارثية والدموية خصوصا في قطاع غزة... وحتى لو تم التوصل إلى هدنة في الأيام والأسابيع المقبلة، فهذا لا يعني أن التوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار أصبح قريبا.