الغرايبة يكتب: بعد أن تسكت المدافع؛ مستقبلات حماس الممكنة
إبراهيم الغرايبة
مؤكد أن الحرب في غزة ستنتهي، فما من حرب تبقى إلى الأبد. قد تنتهي بلا إعلان ولا اتفاق، وليس بالضرورة أن يجري تفاوض واتفاق على انتهاء الحرب. إن استمرار الحرب يعتمد على قدرة إسرائيل على مواصلتها؛ سواء في تحمل كلفتها البشرية والاقتصادية، أو مواجهة الضغط الدولي والإقليمي والرأي العام المناهض للحرب. ويعتمد أيضاً على قدرة حماس والمقاومة على الاستمرار في المواجهة، سواء في تحمل الكلفة البشرية والمالية، والقدرة على تعويض النقص، وتحمل الخسائر والدمار، ومواصلة الحياة في ظل القصف والمواجهة. ويعتمد ذلك ببساطة على استمرار التمويل والدعم والإمداد للمقاومة وتأييد وتضامن الشعب الفلسطيني في غزة.
هكذا، إذا وصلت إسرائيل إلى مرحلة حساب وتقدير للخسائر البشرية والمالية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية والدولية والإقليمية، ووجدت أنها قادرة على تحملها والوفاء بها، وأن الولايات المتحدة الأمريكية أساساً والدول الأخرى الداعمة مستعدة لمواصلة الإمداد والتموين بالمال والسلاح وربما المقاتلين، فإنها ستواصل الحرب. وفي المقابل، إذا استطاعت المقاومة توفير التمويل والدعم التنظيمي والتجنيد للمقاومة، فإنها ستواصل المقاومة.
لقد وصلت الأزمة إلى مستوى في الصراع لم يعد أحد الطرفين يرغب في وجود الآخر، ولا يتصور الآخر إلا “غير موجود”، ويقف خلف التصورين الإقصائيين على الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني قواعد اجتماعية وتنظيمية واسعة تؤيد الإمعان في القتال، ويبهجها إيقاع الأذى والخسائر والألم في العدو. وهذا مختلف عن السياق التاريخي والجغرافي السياسي للحروب، بما هي صراعات تؤول إلى تسويات بين أطراف لا يستغني أحدها عن الآخر ولا يرغب طرف في اختفاء الآخر، لكن يريد كل طرف أن يفرض على الآخر أو يملي عليه أوضاعاً ومواقف يريدها، أو يريد أن ينشئ نتائج مادية ومعنوية للصراع تشكل مكاسب واقعية.
عندما نشبت الحروب الصليبية عام 1095م، كانت مدفوعة بزخم ديني وسياسي كبير وفر لها المقاتلين المتحمسين والممولين والمؤيدين، وتواصلت الحملات في موجات كبيرة، موجة وراء موجة. لكن بدأت هذه الموجات تنحسر وتتراجع مع الزمن، ثم تخلى الفرنجة الأوروبيون عن إخوانهم، وتركوهم يواجهون العرب والمسلمين وحدهم، حتى إن الذين ماتوا غرقاً في البحر هرباً من المماليك عام 1292 كانوا أكثر ممن ماتوا في القتال. ولم تقدم لهم الممالك الأوروبية حتى مراكب تنقلهم من عكا. وأما فرسان الهيكل الذين كانوا العمود الفقري للحروب الصليبية، فقد انتهت وظيفتهم بالنسبة للبابا والملوك، فأعلنت عليهم الحرب وتعرضوا لعمليات قاسية من الإبادة والاعتقال والتعذيب والتشهير.
ليست الحروب، كما يقول تشارلز تيللي، سوى تشكيلة أكثر تنظيماً وبهرجة لعمليات الجريمة المنظمة، أو هي الجريمة المشرعنة والمبررة قانونياً وشعبياً، وسرعان ما يجري إعادة التعامل معها باعتبارها جريمة حتى من وجهة نظر الذين شاركوا فيها وأيدوها.
هل ستبقى حماس في غزة؟ هل ستفاوض إسرائيل؟ هل سترتب أوضاعاً وتسويات مع إسرائيل متفقاً عليها أو متواطأً عليها من غير اتفاق؟ إن الإجابة بنعم أو لا تعتمد فقط على قدرة حماس وقوتها وليس غير ذلك. فعندما تنتهي الحرب، يكون الصديق هو القوي القادر على البقاء أو المواجهة أو التهديد أو التسوية، والعدو هو الضعيف والمهزوم والعاجز. جريمة الحرب هي الهزيمة!
ليس ما يحكم حماس في مواقفها وعلاقاتها مع إسرائيل والدول المؤثرة والمحيطة سوى قوتها وقدرتها. هذا أمر لا ينطبق على حماس وحدها، بل هو قانون الصراع والتسويات والعلاقات. حركة فتح على سبيل المثال، ظلت معادية لإسرائيل، وظلتا (إسرائيل وفتح) تتبادلان العداء والقتال حتى جرى الاتفاق السياسي والتسوية بين الطرفين.
ليس بين اغتيال الرجل الثاني والتاريخي في فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية، أبو إياد صلاح خلف، وبين مؤتمر مدريد للسلام سوى بضعة شهور! وكما للحرب ثمنها، فللسلام والتسوية ثمن أيضاً. في الحرب يقتل الشباب والمحاربون، وفي السلام يقتل أو يتوارى القادة السياسيون الذين أداروا الحرب والقتال.
سوف تختفي حماس من المشهد السياسي والمستقبلي إذا ضعفت، وتضعف بقدر ما تخسر أو تفقد غطاءها المالي والسياسي والإقليمي والتنظيمي والشعبي. أما إذا بقيت قوية ومؤثرة، فجميع الأطراف تريدها، لأن إسرائيل لا تريد اتفاقاً مع شريك غير قادر على تنفيذ الاتفاق، ولن تستطيع أي جهة أخرى غير حماس إدارة غزة أو إدارة وتنظيم اتفاق وتنسيق مع مصر والدول العربية والإقليمية وتسويات مع إسرائيل إلا إذا انتهت حماس أو ضعفت إلى درجة لا تعود قادرة على التأثير في المستقبل أو منع ما يجري. أما إذا بقيت قادرة، فلا حاجة للبديل، ولا معنى لاتفاق مع غيرها، ولا يمكن فرض بديل لها.
ويبدو أنها قادرة على الاستمرار متماسكة كتنظيم ووحدات مقاتلة وأمنية وتنظيمية، وما زالت تملك خطوط إمداد مالي وعسكري مكنتها من الاستمرار في المقاومة والصمود. وسوف تظل موجودة، وليس متوقعاً أن طرفاً من الفاعلين في القضية الفلسطينية بمن فيهم إسرائيل يرغب في إقصائها إذا بقيت قوية متماسكة، لأن البديل هو العجز والفوضى، وهما ما لا يريدهما أحد.
هل سوف يستمر القتال والقصف والتدمير حتى يتم القضاء على حماس؟ هل يمكن ذلك؟ إن الإجابة بالإجماع في كل وسط سياسي وإعلامي، بما في ذلك الوسط الإسرائيلي، أن ذلك غير ممكن. لكن هل تتشكل وقائع جديدة مختلفة عما كان عليه الحال قبل 7 تشرين الأول 2023؟ نعم، بالتأكيد، ثمة تغييرات كثيرة حدثت وتحدث وسوف تحدث. هذه الفكرة هي جوهر التقدير والتحليل، وما يمكن الاعتماد عليه والتأسيس بموجبه لتصور المستقبل.
من المرجح على الأقل منطقياً؛ إذ ليس المنطق هو ما يحدث دائماً في الشرق الأوسط، أن قيادات حماس في غزة والضفة أيضاً سوف تكرس نفسها واقعياً وسياسياً وتنظيمياً، وسوف تتقبلها إسرائيل أو تقبل باستمرارها لأن ذلك شرط لاستمرار حماس وقدرتها في التفاهم والتفاوض والتنسيق، وبغير ذلك تحدث فوضى تضر بإسرائيل كما تضر الفلسطينيين. لذلك يتوقع أن يقود السنوار عمليات التفاوض والتسوية في مرحلة ما بعد الحرب، وكذلك العلاقات الإقليمية والخارجية لأنه لا يمكن أن تجري بفاعلية إلا بقائد يملك القدرة والشرعية.
لقد أكدت حماس والمنظمات الفلسطينية مركزيتها الفلسطينية بالمعنى الميداني والجغرافي، ولم تعد مؤسسات وجهات العمل خارج فلسطين تصلح إلا أن تكون امتداداً للداخل الفلسطيني؛ غزة والضفة الغربية.
ويحتاج أيضاً إلى تنظيم وتوضيح بالنسبة لمجاله وقانونيته الفلسطينية والسياسية. فالفلسطينيون بالمعنى القانوني (حملة الجوازات الفلسطينية) ينشئون وقائع وعلاقات ومصالح مستمدة من وضعهم القانوني وظروفهم السياسية، والفلسطينيون (تاريخياً وهويّاً) لكنهم يحملون جنسيات أخرى، وخاصة الأردنيين منهم، يعيشون وقائع وظروفاً سياسية وقانونية تحدد وضعهم وعلاقتهم بحماس الخارج. الحال أن حماس الخارج لا تملك معنى لوجودها أو تفسيراً وشرعية تنظيمية أو فلسطينية أو أي شكل من أشكال الشرعية. ليس لها شرعية سوى امتدادها لحماس في غزة والضفة، ولا معنى لها غير ذلك.
وتظل محكومة بالشرعية التنظيمية والمحددات القانونية في البلدان التي يحمل الفلسطينيون جنسيتها أو يقيمون فيها. لم يعد ممكناً أو متقبلاً وجود عضو مكتب سياسي في حماس وهو يحمل جنسية بلد تحكم وتحسم قوانينه وسيادته على مواطنية أفق وحدود علاقته بحماس أو العمل الفلسطيني، ثم شرعيته التنظيمية. ليس في مقدوره سوى أن يملك شرعية حقيقية مستمدة من الداخل الفلسطيني أو من تنظيم فلسطيني في الخارج وبموافقة البلد الذي يحمل جنسيته أو يقيم فيه.
ربما يستطيع أن يتضخم في عمان والعواصم، وهو يفطر كل يوم “جدي” ويتغدى “عجل” حتى يصير بحجم فقمتين ملتصقتين ببعضهما سيامياً، ويرسل أولاده للدراسة في لندن، ويتسلى في المساء على الإنترنت، ويملأ مواقع وحسابات للتواصل الاجتماعي ينشئها بأموال قدمت تبرعات للمقاومة وأسر الشهداء والأسرى والصامدين في فلسطين؛ يملأها بالتصريحات وما يشاء من كلام وتحليل وأخبار وتصفية حسابات صغيرة، لكن ذلك لم يعد ممكناً استمراره.