في ناغازاكي حروف من اسم غزة

 

   مروان طوباسي

في وقتٍ ما زالت تُرتكب فيه المجازر الوحشية الإسرائيلية بحق شعبنا وآخرها صباح هذا اليوم الذي استهدف مدرسة حي الدرج بغزة الذي راح ضحيتها من النازحين أكثر من مائة شهيد في مشهد صعب ومؤلم من الأشلاء الممزقة في ظل استمرار صمت الغرب وتواطئه في منح نتنياهو مزيداً من الوقت لارتكاب مزيد منها.

وفي مثل يوم أمس وبالتاسع من آب 1945، شهدت مدينة ناغازاكي حدثاً مأساوياً سيظل محفوراً في ذاكرة البشرية. فقدت المدينة حينها نحو 70 ألف شخص لحظة جريمة إلقاء القنبلة الذي نفذته الولايات المتحدة بإلقائها القنبلة الذرية الأولى بالتاريخ . واليوم بعد مرور 79 عاماً على هذه الجريمة المروعة، يستمر سكان المدينة اليابانيين في فقدان أحبائهم بسبب التعرض للإشعاع النووي. هذا العام وحده أضيف 3 آلاف اسم جديد إلى النصب التذكاري لضحايا تلك الجريمة، في تذكيرٍ دائمٍ بأن الجروح التي خلفتها هذه الكارثة لم تلتئم بعد.

هذه الذكرى لواحدة من جرائم الولايات المتحدة في تاريخ البشرية المعاصر ليست مجرد تذكير بالماضي، بل هي أيضاً رسالةٌ قويةٌ بضرورة إحلال السلام والأمن الدوليين وفي الحاجة الماسة لتوقف جرائم الحرب والجرائم بحق الإنسانية وضرورة نزع أسلحة الدمار الشامل، يتم إرسالها للعالم كل عام من قلب هذه المدينة التي يعود تاريخ تأسيسها لمئة وخمسين عاماً. 

هذا العام رافق هذه الذكرى ارتكاب وتصعيد مجازر الاحتلال الإسرائيلي بحق شعبنا وآخرها صباح هذا اليوم في مدرسة حي الدرج بغزة. هذه الرسالة المرجوة من برنامج إحياء تلك الذكرى أثارت جدلاً ديبلوماسياً عندما قرر عمدة مدينة ناغازاكي بجرأة عدم دعوة السفير الإسرائيلي لدى اليابان لحضور المراسم المعتادة سنوياً، مما أدى إلى مقاطعة ست دول غربية إحياء الذكرى وعلى رأسها الولايات المتحدة مرتكبة الجريمة ومسبب الكارثة الإنسانية هذه، جميعها من مجموعة الدول السبعة في موقف مُعيب يعكس ازدواجية المعايير التي تتبناها هذه الدول بالغرب الاستعماري المنافق التي تدعي الحرص على السلام والأمن، حيث تغض الطرف عن جرائم الإبادة التي تُرتكب في غزة التي يعود تاريخ بنائها الأول إلى 3 آلاف عام مضى قبل الميلاد باسم "أمن وحق الدفاع عن النفس" لمن استوطنوا غصباً وحديثا في أرض فلسطين وشردوا أهلها الأصليين قسراً منذ جريمة النكبة الأولى غير المنتهية حتى اليوم.

وعلى الرغم من أن تلك الجريمة على مدينة ناغازاكي التي لإسمها من أحرف مدينة غزة نصيب، قد استُخدم فيها سلاحاً نووياً أباد عشرات الآلاف في لحظة واحدة ومئات الآلاف لاحقاً. فإن ما يحدث الآن ومنذ عشرة أشهر بل ومنذ تاريخ الاحتلال لقطاع غزة ليس أقل ترويعاً فما رُمي من قنابل وصواريخ من طائرات الاحتلال على غزة تفوق قدرته التدميرية عن ما ألقته الولايات المتحدة ضد الشعب الياباني بالقنبلة الذرية، ويفوق من جانب آخر ما دمرته النازية من مدن. فعمليات الإبادة الجماعية والتطهير العرقي التي ينفذها الاحتلال الاستعماري الإسرائيلي على غزة، التي أسفرت حتى الآن عن مقتل أكثر من 40 ألف شهيد معظمهم من الأطفال وإصابة أكثر من 100 ألف آخرين بجروح خطيرة وإعاقات ستبقى ترافقهم مدى حياتهم في مزيد من العذاب، ولم تبقي غزة مكاناً صالحاً للحياة تعيد إلى الأذهان تلك الوحشية التي شهدها العالم في ناغازاكي وهيروشيما آنذاك وأعمال تطهير عرقي وجرائم أخرى في هذا العالم ارتكبتها الولايات المتحدة، في لاوس، فيتنام، اليونان، الفلبين، لبنان، أميريكا اللاتينية، العراق، الصومال، اليمن، أفغانستان ودول البلقان.

الفارق هنا هو أن الإبادة الجارية في غزة تُنفذ على مدى طويل برؤية كولنيالية وحشية، حيث يعاني السكان من القصف المستمر، الحصار، القتل، التجويع واغتصاب الأسرى واغتيالهم والحرمان من الاحتياجات الأساسية. فما يحدث اليوم في غزة ومحاولات توسعته ليشمل الضفة بما فيها القدس هو محاولة ممنهجة لإبادة جماعية وتطهير عرقي، وهو ما أكدته العديد من الهيئات الدولية والمنظمات الحقوقية والإنسانية بما فيها يهودية مناهضة للحركة الصهيونية، إلى جانب محكمة العدل الدولية، التي اعتبرت هذا العدوان انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي وجريمة ضد الإنسانية في نصوص رأيها الاستشاري.

ولكن الولايات المتحدة والتي قامت بعد أربع سنوات من تاريخ تلك الجريمة في ناغازاكي بالاعتراف بإقامة دولة إسرائيل على جزء من أرض فلسطين التاريخية حتى امتدت لتكون اليوم فوق أرضنا كلها بدعم أمريكي متواصل. فبدلًا من أن تقوم بالضغط على إسرائيل لوقف هذا العدوان وفق ما تدعيه من دور كشرطي في هذا العالم وداعية العالم الحر لتقيم الديمقراطية بالحرب القذرة، تتماهى مع ممارسات الاحتلال الاستعماري وتختار إقناعها بالحسنى والكلمة الطيبة!  إدارة بايدن، التي تجنبت بالطبع حتى الآن فرض أي عقوبات بل ضغوط جادة على إسرائيل، ترسل قواتها وبوارجها وطائراتها لمنطقتنا تحت مبرر حماية إسرائيل التي تتحدث هي اليوم عن تهديدات جديدة باجتياحات ضد مدن القطاع والضفة الغربية، وعن ضربات استباقية ضد إيران ولبنان وسوريا واليمن، مما يزيد من تعقيد الأوضاع ويهدد باستمرار تنفيذ مسلسل الإرهاب الفاشي الإسرائيلي في محاولة متسارعة اليوم لتنفيذ مخططات ورؤية الحركة الصهيونية والمسيانية في تهجير أبناء شعبنا وإقامة مملكة يهودا واستمرار الحرب والإبقاء على الاحتلال وفق ما يرسمه نتنياهو في عقله المريض كمجرم حرب ينتظر صدور طلب محكمة الجنايات الدولية باعتقاله من جهة، وبتنفيذ الولايات المتحدة رؤيتها الاستعمارية الحديثة حول الشرق الأوسط الجديد، في وقت ما زال البعض من العرب والعجم يلهثون خلف وعود سرابها وأطماعها.

بل وأكثر من ذلك، فإن الولايات المتحدة تعمل على محاولة إخراج إسرائيل من عزلتها الدولية لقيادة مشروعها حول الشرق الأوسط بمزيد من استكمال الحروب ضد أي فكر وثقافة ممانعة لمشاريعها ومعاداة المنظمات الدولية ومناهضة محكمتي الجنائية والعدل الدولية، وتهديد دول مختلفة حول العالم تدعوا إلى احترام القانون الدولي وحقوق الإنسان والقرارات الدولية. هذه السياسة الأميركية لا تساهم فقط في استمرار المعاناة الإنسانية في غزة ولكل شعبنا الفلسطيني، بل تضع العالم على مسار تصعيد خطير قد يؤدي إلى اندلاع نزاع دولي واسع النطاق.

في سياق التصعيد المستمر في الشرق الأوسط التي تغذيه دولة الاحتلال بكافة الوسائل قبل وبعد عمليات الاغتيال الأخيرة، إلى جانب ما تقوده الولايات المتحدة في أوكرانيا من حرب بالوكالة ضد روسيا وفي تايوان وبحرها ضد الصين وفي فنزويلا وكينيا ضد إرادة شعوبها، نجد أن العالم يتجه نحو حافة هاوية قد تؤدي إلى اندلاع حرب عالمية ثالثة. هذه الحرب، إذا ما وقعت، ستكون كارثة لا يمكن لأحد أن يتخيل حجمها، وستجلب معها دماراً شاملاً للبشرية، يفوق حتى ما شهدته ناغازاكي وغزة.

ذكرى ناغازاكي وواقع غزة حين ستلقي الحرب أوزارها وسيسكن الحزن غزه بعدها لسنوات أخرى، دون الاستسلام لواقعها المرير، يجب أن تكون تذكيراً دائماً للبشرية وجرساً يقرع بأن الحرب، بأي شكل من الأشكال ليست حلاً، بل هي طريق نحو الدمار، هي طريق لمزيد من الظلم والاضطهاد والقهر خاصة لمعذبي الأرض والمهمشين والفقراء. على المجتمع الدولي أن يتحمل مسؤوليته وأن يعمل على إيقاف عدوان الإبادة الإسرائيلي على غزة فوراً وفي كل مدن فلسطين ومخيماتها وحماية شعبنا حتى تمكينه من إنهاء الاحتلال أولاً نحو الوصول إلى حق تقرير المصير والحرية والعدالة لشعبنا في وقت لا يسمع نتنياهو فيه إلا لأصوات أبواق حاخامات التلمود الداعية للقتل والدمار والدعوات المسيانية التي تلقى دعماً في جزء من الجانب الآخر من هذا الكون، وفي ظرف ينحدر مجتمعهم أكثر نحو مظاهر الفاشية الدينية، لأن استمرار ذلك يعني فتح الباب أمام فصول جديدة من الكوارث الإنسانية التي لا يعلم أحد إلى أين قد تقود العالم بعد أن قتلوا هم ورعاتهم وشركائهم كل فرص السلام التي كانت مفترضة أو متاحة حتى منها الخيار الأممي لحل الدولتين في أرض فلسطين التاريخية، الوطن الذي لا نملك سواه.