"إثنين الإنهيارات" المالية... زوبعة في فنجان ياباني
يبدو أن أعصاب المستثمرين في الصيف ما عادت تنتظر اجتماعات "جاكسون هول" الشهيرة بأنها بوصلة حكام المصارف المركزية والاقتصاديين لرسم توجهات الأسواق العالمية، ولا سيما خفض الفوائد المنتظر بفارغ الصبر، ليتنفس المستثمرون الصعداء. كما أنهم لم يطيقوا انتظارا اجتماع الاحتياط الفيديرالي في سبتمبر/أيلول المقبل.
كان كافيا أن يرفع البنك المركزي الياباني سعر الفائدة ربع نقطة في الأسبوع المنصرم، ليصحو مؤشر الأسهم في بورصة طوكيو (TOPIX) على هبوط حاد في سوق الأسهم اليابانية إلى أدنى مستوى في 37 عاما، فكان الشرارة الأولى التي تلاها صدور تقرير الوظائف الأميركية، لتضرب عاصفة من الذعر اجتاحت الأسواق المالية الأميركية والعالمية، لتتأرجح كل الأسواق بين هبوط ناعم وانهيار على وقع التخلص من الأسهم، لا سيما أسهم شركات التكنولوجيا والعملات المشفرة، والتوجه نحو شراء السندات كملاذ آمن وسط زوبعة عاثت في الأسواق (والإعلام الاقتصادي) اضطرابا من أقصى شرق الأرض في اليابان إلى أقصى غربها في الولايات المتحدة.
المبالغة في مخاوف الركود
في النتيجة، خسرت الأسهم الأميركية نحو تريليوني دولار في 7 ساعات، سبقها تبخر 570 مليار دولار من الأسواق اليابانية، علاوة على تسجيل العملات المشفرة خسائر بـ367 مليار دولار، لترتد في اليوم التالي مباشرة، وتعوض معظم الخسائر، وتتلون الشاشات بالأخضر مجددا بعد يومين عصيبين، إن دلا على شيء، فعلى هشاشة الاقتصاد العالمي ومعه ثقة المستثمرين. فماذا حصل، ماذا يعني، وماذا عن "اليوم التالي" بعد اجتماعات الفيديرالي المنتظرة؟
هل دخلت الولايات المتحدة على مسار الركود كما تردد في أوساط المتداولين مستندين إلى تقرير الوظائف فقط؟ بحسب التقرير، ارتفع معدل البطالة في الولايات المتحدة إلى 4,3 في المئة، أي نحو 0,5 في المئة على أساس المعدل الوسطي المتحرك لفترة ثلاثة أشهر، وهو مؤشر معروف باسم قاعدة "سام"، تيمنا بالاقتصادية الأميركية كلوديا سام، ولطالما كان موثوقا به في دلالته على أن الركود الاقتصادي قاب قوسين أو أدنى. وتنص القاعدة على أنه إذا كان متوسط معدل البطالة على مدى ثلاثة أشهر أعلى بمقدار نصف نقطة مئوية من أدنى مستوى سجله خلال الأشهر الإثني عشر المنصرمة، فإن البلاد تكون قد دخلت في بداية الركود.
لكن الأمر مختلف هذه المرة، وفقا لمصرف "غولدمان ساكس"، إذ يعتقد اقتصاديو المصرف أن ثلاثة أسباب تجعل الارتفاع المطرد في معدل البطالة أقل إثارة للقلق مما كان عليه في الماضي، على الرغم من رفعهم إلى 25 في المئة احتمال حدوث ركود في الولايات المتحدة في السنة المقبلة، من 15 في المئة حاليا.
نمو الوظائف ليس ضعيفا!
أول تلك الأسباب، أن معدل الصرف من العمل في الولايات المتحدة لا يزال ثابتا، وهو منخفض تاريخيا. وتكمن أهمية ذلك في أن الاقتصاد لا يزال خارج الحلقة المفرغة المعتادة التي يحصل فيها فقدان الوظائف. كما أن نمو الوظائف ليس ضعيفا على الإطلاق، بل ينمو بوتيرة قوية يبدو أنها لن تتراجع في الفترة المقبلة.
أما السبب الثاني لاستبعاد الركود، فهو القدرة الفائقة للاحتياطي الفيديرالي على "خرق جدار الصمت" والتدخل سريعا لتحفيز الطلب في الاقتصاد في اجتماع واحد، إذا ما أظهر سوق العمل ضعفا في جديا، وذلك من طريق خفض أسعار الفائدة بشكل دراماتيكي يرجح البعض ان تكون ربما 100 نقطة في سبتمبر/أيلول (1 في المئة)، بعد جرس إنذار الاثنين الماضي.
ثالثا، يرى اقتصاديو المصرف أن ارتفاع معدل البطالة يعود إلى ارتفاع عمالة المهاجرين الجدد إلى الولايات المتحدة، وليس مدفوعا غالبا بفقدان المواطنين لوظائفهم. فليس مفاجئا أن يكون معدل البطالة أعلى لدى هؤلاء المهاجرين، في سنواتهم الأولى في الولايات المتحدة، مقارنة بالمهاجرين الآخرين.
في الواقع لربما يتجه الاقتصاد الأميركي نحو التباطؤ وليس الركود، الذي تغيب مؤشراته التقليدية المتمثلة بنمو سلبي للناتج المحلي الإجمالي على مدى ربعين متتاليين، في حين أن البيانات الصادرة عن مكتب التحليل الاقتصادي الأميركي، تشير إلى أن الناتج المحلي نما بمعدل 2,8 في المئة خلال الربع الثاني من السنة الجارية، ومن غير المرجح أن ينزلق النمو في الولايات المتحدة إلى السلبية بهذه السرعة.
وبصرف النظر عن تفنيد "غولدمان ساكس" للأسباب، فقد حسمت كلوديا سام، وهي اقتصادية سابقة في الاحتياطي الفيديرالي، القضية شخصيا في حديث إلى "سي. إن. بي. سي." قائلة، "لسنا في ركود حاليا!".
العودة إلى أرض الواقع
لا ريب أن "وظيفة الفيديرالي واضحة جدا؛ زيادة فرص العمل الى الحد الأقصى، ثبات الأسعار والحفاظ على الاستقرار المالي وهذا ما سنفعله"، كما صرح أوستن غولسبي، رئيس بنك الاحتياطي الفيديرالي في شيكاغو، مطمئنا المستثمرين في حمأة فورة الأسواق الاثنين الماضي، و"إذا حدث تدهور في أي من هذه الأجزاء، فسنصححه" كما نقلت عنه "الفايننشال تايمز".
وأشار الى ان بنك الاحتياطي الفيديرالي "لم يستجب لمجموعة واحدة من المؤشرات، ولكنه أبقى الخيارات مفتوحة في ما يتعلق بالسياسة النقدية، وهل ينبغي لنا الحد من القيود؟ لن نقيد أيدينا بما سيحدث في المستقبل لأننا سنواصل الحصول على مزيد من المعلومات".
قادت المخاوف من الركود إلى "الإنهيار الخاطف" الذي شهدته الأسواق على مدى يومين، من دون احتساب عطلة نهاية الأسبوع التي يتوقف خلالها التداول في الأسواق. إلا أن عوامل أخرى ترتبط بالسياسة النقدية للولايات المتحدة وبالمستثمرين أنفسهم والقطاعات التي يستثمرون بها، فرضت تأثيرها على الأسواق وغذت التوجه السلبي لأسعار الأسهم.
قرار الاحتياطي الفيديرالي في نهاية يوليو/تموز الماضي، إبقاء أسعار الفائدة من دون أي خفض كما كان متوقعا، وللمرة الثانية على التوالي هذه السنة، أثار قلق أسواق الأسهم في شأن ارتفاع تكاليف الاقتراض، في وقت قامت بنوك مركزية أخرى في الاقتصادات المتقدمة، من بينها بنك إنكلترا والبنك المركزي الأوروبي والبنوك المركزية في كندا وسويسرا والسويد، بخفض أسعار الفائدة بنسب طفيفة. أما إعلان رئيس الاحتياطي الفيديرالي جيروم باول، المتأخر نوعا ما، احتمال خفض الفائدة في سبتمبر/أيلول المقبل، فلم يخمد اندفاعة المستثمرين.
تضخم أسهم شركات التكنولوجيا
واعتبر عدد من الاقتصاديين أن الاحتياطي الفيديرالي أخطأ في عدم اتخاذ قرار خفض سعر الفائدة في اجتماعه الأخير، على الرغم من اجماع هؤلاء على أن الوقت قد حان لذلك، وفق ما ألمح إليه نائب رئيس بنك الاحتياطي الفيديرالي السابق آلان بليندر، والحائز جائزة نوبل بول كروغمان، بأن البنك المركزي الأميركي تجاهل الدعوات لخفض سعر الإقراض القياسي.
كذلك، بدت الأسواق في حال من عدم الاستقرار بسبب الإشارات إلى أنه ربما بدأ يخبو الارتفاع المتواصل ولفترة طويلة في أسعار الأسهم المتضخمة، لا سيما في قطاع التكنولوجيا، والذي دفعه جزئيا التفاؤل في شأن الذكاء الاصطناعي.
فقد أعلنت شركة "إنتل" العملاقة لصناعة الرقائق الأسبوع الفائت أنها ستلغي 15 ألف وظيفة، فيما سرت شائعات أن شركة "إنفيديا" المنافسة قد تضطر إلى تأخير إصدار شريحة الذكاء الاصطناعي الجديدة الخاصة بها. تلت ذلك ملحمة مؤشر "ناسداك" الأميركي المعروف بثقله التكنولوجي، الذي انخفض بنسبة 10 في المئة يوم الجمعة المنصرم بعدما وصل إلى أعلى مستوى له قبل بضعة أسابيع فقط. وقد حفز ذلك عامل الخوف في الأسواق.
خسائر "السبعة الكبار"... كبيرة
وكان مؤشر "بلومبرغ" الذي يرصد "السبعة الكبار"، "ألفابيت"، و"أمازون"، و"أبل"، و"ميتا"، و"مايكروسوفت"، و"إنفيديا"، و"تيسلا"، قد افتتح بانخفاض نحو 9 في المئة، وهو أسوأ تراجع سجله المؤشر خلال يوم واحد منذ عام 2015. كما أدى انخفاض مؤشر "ستاندرد أند بورز 500" (S&P 500) إلى شطب ما يصل إلى 1,87 تريليون دولار من القيمة السوقية في جلسة واحدة، ما يوازي ثلثي قيمة مؤشر "إف. تي. إس. إي. 100" (FTSE 100) بأكمله. وشهدت "إنفيديا"، التي سحرت الأسواق ووسائل الإعلام في الأشهر المنصرمة وحدها تبخر ما يزيد على 300 مليار دولار من قيمتها السوقية عند الافتتاح.
وفي اليابان، حيث انطلق الانهيار العنيف لأسواق الأسهم، وجد المستثمرون أنفسهم في مأزق، حيث اقترضوا الأموال من اقتصادات ذات أسعار فائدة منخفضة مثل اليابان أو سويسرا، لتمويل استثمارات في أصول ذات عائد مرتفع في أماكن أخرى، ليستيقظوا على ارتفاع الين الياباني بأكثر من 11 في المئة في مقابل الدولار بعدما سجل أدنى مستوياته في 38 عاماً قبل شهر واحد فقط، ودفع إلى طفرة في الاقتراض بالين. وقد وصل حجم إقراض المصارف اليابانية للمقترضين الأجانب بالين إلى نحو تريليون دولار في مارس/آذار الماضي، وفقا لبيانات بنك التسويات الدولية، بزيادة 21 في المئة عن عام 2021.
وكانت وكالة "رويترز" نقلت عن أحد المستثمرين المقيمين في آسيا، أن بعضا من أكبر صناديق التحوط المنهجية التي تتداول في الأسهم تبعا لإشارات من الخوارزميات، بدأت ببيع الأسهم بعد الرفع المفاجئ لسعر الفائدة من قبل بنك اليابان المركزي، وما يعنيه ذلك من ترقب لسياسات نقدية أكثر تشددا.
واقتفت أسواق الأسهم الرئيسة في منطقة الخليج أثر الأسواق العالمية بتوازن ملحوظ فمن جهة، سيؤدي أي ركود في الاقتصاد الأميركي إلى خفض الطلب على النفط، عدا انخفاض الطلب على النفط بشكل عام من الصين، وهذا ما يفسر الانخفاض الذي شهدته أسعار النفط الخام وسط تلك المعمعة، علما أن النفط يعتبر محفزا رئيسا للأسواق المالية في منطقة الخليج. أضف إلى ذلك تصاعد التوتر في المنطقة، أكبر منتج للنفط في العالم، والقلق في شأن اتساع رقعة الصراع.
عمالقة المستثمرين في عين العاصفة
عامل آخر، يصنف نفسيا، ساهم في مسارعة المستثمرين إلى بيع أسهمهم باحثين عن مخرج من الخسائر الفادحة. فقد سجل تخلي وارن بافيت عن "الأسهم"، وهو المستثمر العريق والرئيس التنفيذي لشركة "بيركشاير هاثاواي"، وهذا أمر غير معتاد، مما أثار حفيظة المتداولين. إذ يشتهر بافيت بالهدوء عندما يخاف الجميع، وهو القائل مرارا وتكرارا إن مرحلة هبوط الأسواق، أي عندما تنخفض أسعار الأسهم بنسبة 20 في المئة عن ذروتها، هي أفضل الأوقات للشراء.
لذلك، أثار بافيت موجة جديدة من الذعر في "وول ستريت" عندما اعلن يوم الجمعة الفائت بيع شركته نصف أسهمها في شركة "أبل".
وقد تعرض مليارديرات التكنولوجيا الكبار في العالم، من بينهم جيف بيزوس ومارك زوكربيرغ وإيلون ماسك، لضربات قاسية من قبل الأسواق، حيث شهدوا شطب ما مجموعه 68 مليار دولار من صافي ثرواتهم بين ليلة وضحاها، وفقا لـ"بلومبيرغ". وكان على رأسهم جيف بيزوس، مؤسس "أمازون"، الذي خسر ثمانية مليارات دولارات من ثروته فيما خسرت "أمازون" أكثر من 15 مليار دولار من قيمتها.
"مؤشر الخوف"، المعروف أيضا باسم مؤشر تقلبات السوق (VIX)، مهم ولا شك، وهو مقياس للتوقعات المستقبلية حول تقلبات السوق المالية، لكنه يستخدم أيضا كمؤشر معاكس عندما يكون مرتفعا بشكل غير طبيعي. فالسوق عندما تكون في حالة ذروة البيع، قد تكون فرصة للشراء أيضا. فهنيئا لمن اشترى الاثنين الماضي في ذروة الخوف. هنيئا لأصحاب القلوب الجريئة!