البراري يكتب: الانتخابات والديمقراطية .. أيهما يأتي أولا؟

  هزاع البراري (امين عام وزارة الثقافة الأسبق)

الانتخابات والصيرورة الديمقراطية، أيهما يأتي أولا؟ ومن ينتج الآخر؟ هل إقامة الانتخابات في حد ذاتها كفيلة بتحويل المجتمع – أي مجتمع – الذي يشكل أهم ركائز الدولة إلى مجتمع ديمقراطي؟ وبالتالي تتسرب الديمقراطية كفكر وسلوك إلى جميع مفاصل الدولة.

هل التشريعات ومرونتها ومتانتها قادرة على ضمان نتائج جيدة لأي انتخابات؟ أم أن الممارسة الفعلية من قبل المجتمع لأي قانون هي الفاعل المؤثر؟ وأن هذه الممارسة لا تنفصل مطلقًا عن عادات وتقاليد وقيم أي مجتمع، وأن هذه المكونات الأساسية لأي مجتمع لا تكون بالضرورة ديمقراطية بل تتعارض معها في كثير من المنعطفات.


لقد برز في الحالة المحلية، التي لم تتوقف فيها الانتخابات البرلمانية والمحلية منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي، رغم كل ما واكب هذه العقود وأحاط بها من أحداث إقليمية بالغة الأثر وعميقة التأثير، سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، إلا أن الانتخابات سارت بوتيرة متصلة وغير منقطعة، وهذا يحسب لنا لا علينا، ويؤكد على يقين رأس الدولة بجوهرية الانتخابات في مسيرة الدولة، كونها عتبة أساسية في مسارات تحديثها.

لكن الحالة المحلية أفرزت الكثير من المظاهر التي تستوجب التأمل، وتعد سمات راسخة أحيانًا تجعلنا، أو على الأقل تدفع الدارسين للتمعن فيها، للمساعدة في رسم حلول جذرية ولو كانت بطيئة الحركة.


وربما ينظر إلى ارتفاع نسبة الاقتراع من خلال زيادة عدد الناخبين الممارسين للعملية الانتخابية، أنه يؤشر بالضرورة إلى ثقافة المجتمع الديمقراطية ووعيه بدوره في التغيير للأفضل، ويؤشر أيضًا إلى أن المجتمع يفكر ويتصرف بشكل يجعله يتماهى مع الحالة الديمقراطية ولو من خلال الانتخابات.


بالتأكيد هذه نتيجة مضللة وغير دقيقة، ففي الحالة المحلية تساهم عوامل كثيرة ذات بعد مجتمعي عشائري في زيادة نسبة الاقتراع نتيجة التنافس المناطقي العشائري، ناهيك عن الروابط الاجتماعية الأخرى، والموروث الاجتماعي القيمي، الذي يصب في مصلحة العملية الانتخابية من ناحية رفع نسبة الاقتراع، في الوقت الذي تتراجع فيه هذه الدوافع والمحفزات لدى مدن كثيرة نتيجة إفرازات الحالة المدنية، متبوعة بغياب الدافعية الفردية والجماعية، والشعور بالإحباط أحيانًا، ولوجود أسباب وظروف مختلفة تحتاج دراسة موسعة.

نعم، تمكنا من إقامة انتخابات بشكل متصل، حتى صارت أقرب ما تكون إلى فعل مناسباتي أكثر من كونها فعلًا سياسيًا ديمقراطيًا يوميًا، نعم استجاب المشرع وبشكل مرن ومواكب لكل الظروف والتحولات والمطالب، فليس لدينا تشريعات تخص العملية السياسية جامدة وغير قابلة للتطوير والتحديث، يكفي أن نشير إلى منظومة التحديث السياسي الأخيرة التي قادها جلالة الملك وضمن تنفيذها بالشكل المطلوب، ولكن هل كان لكل هذه الجهود والسنوات المتعاقبة أثر واضح في بناء المجتمع الديمقراطي؟ أقول المجتمع لأنه أساس السلطات.


أعرف أن الانتخابات أي انتخابات هي الطريق الأقصر والأسهل في إيجاد حراك عام وظاهر، لكن إحداث أي تغيير في بنية أي مجتمع – وأقصد هنا البنية المتعلقة بثقافة الديمقراطية والسلوك اليومي – يحتاج إلى تعاضد الجهود على جميع المستويات، بدءًا بالمناهج المدرسية والقوانين الناظمة لحياة الناس، والتأكيد على قيم موجودة أصلًا لكنها تراجعت لأسباب كثيرة، والأهم أن يشعر الناس أن الديمقراطية حاجة أساسية في تفاصيل حياتهم.

فقد أدى ربط الديمقراطية بالانتخابات باعتبارها الأساس والأسمى مع إغفال الجوانب الحياتية الأخرى إلى الإضرار بالانتخابات وبالديمقراطية في وجدان الناس.