بعد إلقاء التحية على اسماعيل هنية وفؤاد شكر.. كلمات هادئة على هامش الحدث الكبير

أحمد أبو خليل

لقد مر على صراعنا مع العدو أكثر من مئة عام. وبتقديري أننا اليوم في أحسن حالاتنا في مجمل هذا التاريخ. وهذا ليس كلاما عاطفيا بل في منتهى الواقعية. 

هو كلام مبني على كوني بالصدفة وبحكم عمري، وعيت أكثر من نصف تاريخ هذا الصراع، ثم تعرفت من خلال الأرشيف على كثير من تفاصيل بداياته في سنواته الأولى بل حتى قبل أن يبدأ. وطالعت مئات المواد كما نُشرت في حينها، ووفق أساليب الكتابة والنشر في تلك السنوات، يمكن للقارئ أن يشعر بانفعالات المشاركين بالأحداث.

الأرشيف الذي أقصده، هو بالأساس أرشيف الصحافة العربية في فلسطين وهو أرشيف غني وكبير وشامل لشتى المجالات، فقد كان يصدر في فلسطين ما يقرب من 100 جريدة ومجلة في كل التخصصات، وكانت تغطي المنطقة كاملة: فلسطين وشرق الأردن والشام ولبنان والعراق ومصر.

بناء على ذلك أعتقد فعلا اننا في أحسن حالاتتنا.

نحن الآن نتحدث عن ما يقرب من أربعة أجيال (حيث يقدر الجيل بنحو 27 عاما). لقد بدأ الصراع والأمة مربكة تعيش في جهل وتجهيل ورثته من السيطرة العثمانية. والكلام كثير عن يوميات هذا الجهل بالعدو ومشروعه الذي استثمر في المستعمر البريطاني والفرنسي كغطاء.

بين حياة الناس اليومية ومتطلباتها على الصعيد الفردي والجماعي، وبين مشروع العدو النامي والمتسلل بالتدريج، كان الجمهور في حالة انشداه وحيرة كبيرين.

رغم التضحيات الكبيرة، لكن الوضع الشعبي كان بائسا، وأكثر بؤسا منه الوضع الرسمي.

عبرت هذه الحالة البائسة حرب 1948 وإقامة دولة الاحتلال، ثم وصلت إلى حرب 1967 وتجاوزتها مكتسبة بؤسا جديدا، وواصلنا "الجرجرة" حتى حرب الخليج 1991 التي شعر حلف الأعداء بعدها ان الفرصة حانت لتكريس الهزيمة الشاملة للأمة. أذكر أن مؤتمرا دوليا عقد في روما كان موضوعه الحقيقي إنهاء ظاهرة العالم العربي والأمة العربية كهوية لهؤلاء البشر القاطنين على الضفة الأخرى من المتوسط. (هذه المفردات من اختياري لكنها تعكس ما طرح حينها).

كنا في حالة استسلام كامل، وذهبنا إلى مؤتمر السلام كشعوب وليس فقط كأنظمة. وكالعادة وجدت الجموع ما يعوضها نفسيا ويسهل عليها قبول الهزيمة عبر الكلام عن النمو والازدهار في الإقليم كله، وطرحت أسئلة جدوى الحروب والمقاومة. والمجال لا يتسع للمساخر التي قبلنا بها ورحبنا بها، وخاصة في فلسطين والأردن.

في تلك السنوات، من التسعينات، بدت عمليات المقاومة في لبنان وفلسطين، وكأنها مجرد "تنغيص" على النفوس المتفائلة. كانت عمليات حماس والجهاد تدان علنا، وظلت كذلك حتى سنوات لاحقة.

وعندما حُرر جنوب لبنان عام 2000 جرت عملية تبخيس وتهوين للأمر، وقال قادة ثوار سابقون، إن انسحاب اسرائيل من الجنوب دليل على صدق رغبتها في السلام.

شكرا للعدو الذي واظب في الأثناء على عمق عدائه للشعوب، شكرا له لأنه لم يعط الأنظمة ما يبيض وجهها امام شعوبها. شكرا بالذات لأنه لم يعط السلطة الفلسطينية ما يستر عورتها، وهي التي أعطته، ليس فقط استسلاما، بل أيضا أعطتة التصديق على روايته التاريخية للصراع. لم يكن موقف العدو غباء، بل تعبير عن جوهر مشروعه.

جاءت بعد ذلك حرب تموز 2006 في لبنان، ثم حروب غزة الدورية الموزعة على سنوات، وقبلها وبعدها المواجهات الشجاعة في الضفة الغربية.

فيما مضى كنا أحيانا نشكر المقاومين، ولكن بلا أمل وبلا ثقة، وكثيرا ما كنا نحزن لأجلهم، ونتألم لتضحيات نرى أنها بلا طائل. ولكننا أخذنا في العقدين الأخيرين نحمل أملا حقيقيا واقعيا. لقد بدأنا نرى عدونا مهزوما مذلولا مهانا، وتشاركنا في ذلك قطاعات كبيرة من شعوب العالم. والآن وصلنا إلى حرب غزة الحالية نقلت الأمة والعالم إلى عصر جديد.

في مثل هذا النوع من الصراع، لا يجوز الاكتفاء بنظرة قصيرة المدى. لقد استمر الاحتلال الفرنسي للجزائر 130 عاما، أي انه مر عبر حوالي خمسة أجيال. ولنا أن نتصور عدد حالات التراجع والإحباط التي مرت، وكم خيانة وعمالة مورست. ولنا أن نتصور أيضا عدد الدعوات اإلى الاستسلام التي سمعها الجزائريون.

ماذا عن الخسائر والتضحيات؟ 

أيها الإخوة، يختار البشر كأفراد خياراتهم في الحياة، ويحددون اولوياتهم، كل بطريقته. فمنا من يسعى للثروة والحيازة والتملك، ويرى معنى حياته وسعادته في هذا الطريق. ومنا من يختار معنى آخر لحياته، فقد يحدد قيمة او قيما، ويقرر ان حياته تتكثف فيها بالأساس.

وفي التقاء البشر في جماعات وشعوب، تتشابك تلك الخيارات وتتفاعل، وتتحول إلى مسالك جماعية متنوعة أيضا.

في مجمل الصراع مع هذا العدو اليوم، نجد أمتنا، أو بالأصح، من يختار الكرامة في أمتنا، في أفضل حالاتهم.

دعكم من مرضى النفوس المغلولة الكارهة بيننا، وتعالوا نحيي آخر مثالين جعلانا نشعر بتجسيد حي وملموس للفكرة القرآنية: "رجال صدقوا ما عاهدوا الله".