إرث نتنياهو وما فعله لإسرائيل؟

  كتب ماجد كيالي

لا تقتصر سيرة بنيامين نتنياهو، رئيس الحكومة الإسرائيلية، فقط، على كونه الرجل الذي احتل ذلك المنصب في إسرائيل أكثر من أي شخص آخر (17 عاما حتى الآن)، وحتى أكثر من بن غوريون المؤسس (14 عاما)، وذلك في ثلاث حقب، كزعيم لحزب "الليكود" القومي اليميني (الأولى 1996-1999، الثانية 2009-2021، الثالثة منذ أواخر 2022 إلى الآن).

أيضا فإن تلك السيرة لا تقتصر على كونه الرجل الذي هيمن على سياسة إسرائيل، في العقود الثلاثة الماضية. فعلى الصعيد الداخلي، تميز نتنياهو بحرصه على الربط بين اليمين القومي واليمين الديني المتطرف، في قيادة إسرائيل، وصوغ أحوالها الداخلية.

صحيح أن قادة إسرائيل، منذ إقامتها، اهتموا بإدخال الأحزاب الدينية في الحكومة، رغم أن أعضاءها لا يخدمون في الجيش، ويتلقون مساعدات من الدولة، إلا أن نتنياهو تميز بتحالفه مع القوى الدينية الصهيونية، أيضا، وهم يشكلون اليوم النصاب الأيديولوجي في المجتمع الإسرائيلي، ويخدمون في الجيش الإسرائيلي، ويشكلون ميليشيات مسلحة، ويعتدون على الفلسطينيين وعلى أراضيهم، وهم الأكثر شراسة بين مستوطني الضفة، وامتداد لجماعات "كاخ" الكاهانية العنصرية المتطرفة (منهم باروخ غولدشتاين منفذ مذبحة الخليل- 1994). وعن خطر هؤلاء يقول بي. ميخائيل إنه "خلافا للحريديين، الذين يمثلون تهديدا على جيب الدولة (مثل حزب "شاس" لليهود الشرقيين، و"يهوديت هاتوراه" لليهود الغربيين)، فإن "الصهيونية الدينية" (ويمثلها سموتريتش زعيم حزب "الصهيونية الدينية"، وبن غفير زعيم حزب "القوة اليهودية") هي تهديد وجودي... القاعدة التاريخية تقول: "أعطوا للدين التوحيدي سلطة وجيشا ومنطقة جغرافية، وستحصلون على وحش في نهاية المطاف سيدمر نفسه". ("هآرتس"- 14/12/2023).

 

على الصعيد الداخلي أيضا، اشتغل نتنياهو على تغليب طابع إسرائيل كدولة يهودية ودينية على حساب طابعها كدولة ليبرالية ديمقراطية (نسبة لمواطنيها اليهود)، كما اشتغل على تغيير طابع النظام السياسي في إسرائيل، بسعيه لتقويض السلطة القضائية، وتحويل إسرائيل إلى دولة الأغلبية العددية، الأمر الذي يحصر السلطة في يد السلطة التنفيذية، التي تنبثق من أغلبية في الكنيست، الأمر الذي يمكن ترجمته بحصر الديمقراطية في صناديق الاقتراع، ما شرع اتهامه من قبل خصومه بمحاولة تحويل إسرائيل إلى دولة دكتاتورية.


تبعا لكل ما تقدم، فإن نتنياهو سيعرف، أيضا، أنه رئيس الحكومة الذي تسبب في تصدعات كبيرة في المجتمع الإسرائيلي، بين المتدينين والعلمانيين، والشرقيين والغربيين، وبين المستوطنين المتطرفين في الضفة والإسرائيليين، وبين العرب واليهود في 48. وأنه رئيس الحكومة التي ظلت مظاهرات إسرائيلية عارمة تخرج ضده وضد سياساته، في المدن الإسرائيلية، منذ أول يوم جاء إلى رئاسة الحكومة (أواخر عام 2022 وحتى الآن)، وأنه في عهده تراجعت ثقة الإسرائيليين في أمنهم وفي جيشهم وفي حكومتهم، أكثر من أية فترة مضت.


على الصعيد الفلسطيني، نتنياهو هو الرجل الذي وضع في مركز اهتمامه أو إرثه السياسي تقويض "اتفاق أوسلو" مع الفلسطينيين، ووأد حلمهم بإقامة دولة فلسطينية مستقلة، بكل الأشكال، مع إبقاء السلطة الفلسطينية عند حدود الحكم الذاتي المقيّد، وعند حدود فكرته عن "السلام الاقتصادي"، أي فلسطينيين من دون أية حقوق وطنية، وقد استمر ذلك منذ حقبته الأولى (عقب اغتيال إسحق رابين)، حيث ناهض عملية التسوية، ومشاريع "الشرق الأوسط الجديد"، ثم في حقبتيه الثانية، والثالثة، على نحو ما شهدنا سواء في تجميده المفاوضات مع الفلسطينيين، أو في تمريره "قانون أساس" اعتبار إسرائيل دولة قومية لليهود، ما يضع فلسطينيي 48، من مواطني إسرائيل، في درجة أدنى، إزاء مواطني إسرائيل اليهود.


إضافة إلى ذلك، بات نتنياهو يعرف بأنه الرجل الذي خاضت إسرائيل في عهده (الثالث)، أطول وأقسى حرب في تاريخها (منذ عشرة أشهر حتى الآن)، ضد الشعب الفلسطيني، وأن تلك الحرب كانت الأكثر كلفة من النواحي العسكرية والسياسية والأخلاقية على الفلسطينيين وعلى إسرائيل أيضا. 


دوليا، كان إرث نتنياهو وبالا على إسرائيل، وعلى صورتها، وعلاقاتها مع حلفائها في الغرب. مثلا، تميزت علاقات نتنياهو مع الإدارات الأميركية المعاصرة له، بالتوتر (باستثناء إدارة ترمب)، فهو أكثر رئيس وزراء في إسرائيل ألقى كلمات في الكونغرس الأميركي (أربع مرات: 1996، 2011، 2015، 2024)، في ظل إدارات لرؤساء ديمقراطيين (في الأولى بيل كلينتون، والثانية والثالثة باراك أوباما، والرابعة جو بايدن). ومعنى ذلك أن نتنياهو كان يحاول، من خلال ذلك، تأليب قطاعات من الأميركيين ضد الرئيس الأميركي، والتحالف مع خصومه (الجمهوريين) في الكونغرس للضغط عليه، علما أن أيا من رؤساء الولايات المتحدة لم يخل بالعلاقة الاستراتيجية التي تربط بلاده بإسرائيل، ولم يتخل أي منهم عن الالتزام بتقديم الدعم اللامحدود لإسرائيل، سياسيا وعسكريا وماليا، وهذا ينطبق على كلينتون وأوباما وبايدن (كما شهدنا في دعمه حرب الإبادة الإسرائيلية ضد الفلسطينيين).

 

على هذا الصعيد، أيضا، باتت إسرائيل في عهد نتنياهو تبدو كعبء سياسي وأمني وأخلاقي بالنسبة لحلفائها أكثر من أية فترة مضت، بسبب حرب الإبادة التي تشنها منذ عشرة أشهر ضد الفلسطينيين، الأمر الذي ولد ردة فعل كبيرة في الرأي العام العالمي، سيما في الدول الغربية، ما خلق نوعا من التوتر في تلك الدول بين مواطنيها وحكوماتها، الأمر الذي تمت ترجمته بتخفيف بعض تلك الحكومات من لهجتها الداعمة لإسرائيل، وهو ما حصل في الولايات المتحدة بتحول قطاعات من المجتمع ضد سياسات إسرائيل، سيما في الحزب الديمقراطي، ويشمل ذلك بروز جماعات يهودية تدين سياسات إسرائيل، في الدول الغربية، وترفع صوتها للتبرؤ من سياسات نتنياهو، واعتبار أن ما يقوم به لا يمثل الشعب اليهودي، وأن إسرائيل لا يحق لها احتكار تمثيل ضحايا "الهولوكوست"، وأن العداء لإسرائيل لا علاقة له بـ"اللاسامية".


ضمن إرث نتنياهو سيسجل، أيضا، أن في عهده فقدت إسرائيل مكانتها كدولة آمنة ورادعة، وفقدت مكانتها كضحية، إذ باتت تعرف كدولة تمارس حرب إبادة وحشية ضد الفلسطينيين، إضافة إلى كونها دولة "أبارتهايد"، ما جعلها بمثابة دولة مدانة، ومعزولة، وهو ما تجلى مؤخرا في القرار الاستشاري الصادر عن محكمة العدل الدولية.