"جو الإبادة الجماعية"

  علاء الدين أبو زينة

أيا يكن من يجلس في «البيت الأبيض»، جمهوريا كان أم ديمقراطيا، فإن الأمور سيان بالنسبة للعرب. كلهم يزدرون هذه الأمة ويستهدفونها بالاتباع. لكنّ انتهاء حياة جو بايدن السياسية، هو المتشبث باستماتة بالسلطة، كانت مصدر راحة للكثيرين لأن أمله خاب. وهو الرئيس الذي يغادر ويداه تقطران بدماء الأطفال والنساء والضحايا العرب.

 ربما كان دافعه للإشراف على قتل الفلسطينيين  هو إيمانه العميق بالصهيونية، كما كان يقول دائما. ربما هي دوافع براغماتية تتعلق بمحاباة اللوبي الصهيوني والمتبرعين الصهاينة كشرط للصعود إلى المنصب. لكن النتيجة واحدة: لقد أشرف في فترته المشؤومة على أبشع جرائم الحرب والإبادة الجماعية في حق الفلسطينيين، وتجاهلت سياساته بالمطلق كل ما هو إنساني وأخلاقي وعادل في التعامل مع قضيتهم التحررية العادلة، أكثر مما فعل أي من أسلافه.

«جو الإبادة الجماعية» Genocide Joe هو اللقب الذي أطلقه عليه مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي وهم يشاهدون الهول الذي يواجهه الفلسطينيون في غزة، باستخدام الصواريخ والقذائف التي يرسلها بلده، بموافقته، للكيان الصهيوني لتقطيع الأطفال والنساء والشيوخ والرجال في القطاع المعذَب.

 وقد أعلن انحيازه مباشرة، في كلمته التضامنية مع نظام الاستعمار الصهيوني في تشرين الأول (أكتوبر): «لقد أتيت إلى إسرائيل برسالة بسيطة.

 أنتم لستم وحدكم. طالما كانت الولايات المتحدة هناك، وسوف تكون هناك إلى الأبد، لن تكونوا وحدكم».

 وقال بعد ذلك، مشككا في حصيلة الضحايا التي تعلنها وزارة الصحة الفلسطينية في غزة: «ليست لدي فكرة عما إذا كان الفلسطينيون يقولون الحقيقة.. أنا متأكد من أن أبرياء قد قُتلوا، وأن هذا هو ثمن الحرب».

لـ»جو الإبادة الجماعية» تاريخ طويل في دعم الكيان الاستعماري-الاستيطاني الصهيوني، عبر عنه في مواقفه وتصريحاته منذ بداياته السياسية. وهو موقف وضعه عمليا في موضع العداء للفلسطينيين –والعرب- وانتفاء أي إمكانية للتظاهر بالحياد والنزاهة تجاههم.

 وقد أعلن موقفه في وقت مبكر هو العام 1986، حين قال في خطاب في مجلس الشيوخ: «لقد حان الوقت للتوقف عن الاعتذار عن دعمنا لإسرائيل... ليس هناك اعتذار يمكن تقديمه. إنه أفضل استثمار بقيمة 3 مليارات دولار نقوم به.

 لو لم تكن هناك إسرائيل، لكان على الولايات المتحدة الأميركية أن تخترع إسرائيل لحماية مصالحها في المنطقة».

‏ وكان إعلانه إيجازا لوظيفة الكيان في المنطقة، التي لا تُقتصر على شطب الفلسطينيين، وإنما إخضاع كل المنطقة العربية. وهو شيء ينبغي أن يكون في الكتاب الإرشادي لصناعة السياسة في أروقة السلطة العربية.

ولم يتوقف عن إعلاناته المنحازة. في العام ‏2007، قال في مقابلة تلفزيونية:‏‏ «أنا صهيوني. ليس عليك أن تكون يهوديا لتكون صهيونيا».‏ وفي العام 2020، قال في مؤتمر سياسات اللوبي الصهيوني، (آيباك): «يستيقظ الإسرائيليون كل صباح وهم يواجهون تهديدا وجوديا من جيرانهم. كل صباح يستيقظون ويمارسون حياتهم اليومية.

 لكنها حقيقية. إنهم يواجهون تهديدات وجودية لوجودهم».‏ وفي أيار (مايو) 2021، قال في ملاحظات حول النزاع في غزة:‏‏ «حزبي ما يزال يدعم إسرائيل ... دعونا نتحدث عن شيء واضح هنا: حتى تقول المنطقة بشكل لا لبس فيه أنها تعترف بحق إسرائيل في الوجود، كدولة يهودية مستقلة، لن يكون هناك سلام».‏ 

وبعد عام، في أيار (‏مايو) 2021، قال في مؤتمر صحفي:‏‏ لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها عندما يكون لديك آلاف الصواريخ التي تطير على أراضيك».‏


في عهد بايدن، واصلت علاقات الولايات المتحدة مع العالم العربي طابع الهيمنة والإتباع أكثر من الشراكة، حيث الأولوية دائما لمصالح الكيان. وركز على استمرارية السياسات التي بدأت في عهد إدارة ترامب، وخاصة متابعة اتفاقيات التطبيع بين الكيان والعرب، في ما يعرَف بـ»اتفاقيات إبراهام». 

وقد انسجم هذا المسعى مع تعليقه جلب السلام للعرب على شرط الاعتراف بحق الكيان الاستعماري في الوجود، مع معرفتهم بوظيفة هذا الكيان، كما أوضح في أقواله أعلاه. وعلى النقيض من ادعاء الأميركان باحترام حق الشعوب في تقرير المصير والتعبير عن الرأي، تعارضت مساعيه على طول الخط مع إرادة الشعوب العربية التي ترفض الكيان. 

وتكشف استطلاعات الرأي التي تجريها مراكز الاستطلاعات الغربية نفسها على انخفاض شعبية الولايات المتحدة بين العرب بحدة في عهده، تعبيرا عن سخط الرأي العام العربي على سياساته ومواقفه.

واصلت سياسات بايدن في الشرق الأوسط اللعب على التوترات الطائفية والتلاعب بالسياسة الإقليمية، دائما لخدمة الكيان. وعلى سبيل المثال، تماشى تركيز إدارته على مواجهة إيران مع أولويات الكيان، وعلى حساب الاستقرار الإقليمي الأوسع. وبدلا من العمل كقوة للمصالحة وتخفيف التوترات بين طائفتي العالم الإسلامي الرئيسيتين،

 استغلت إدارة بايدن الفروقات التي لا تصل إلى حد التناقض الوجودي، من أجل إدماج الكيان المناقض وجوديا في تحالف ينبغي أن يكون مستحيلا، حيث لا يمكن العثور على مشتركات بين الصهيونية الاستعمارية والعرب من أي دين أو طائفة. وكان عنوان سياسة بايدن هو تعميق الانقسامات الطائفية وتأجيج الصراعات، حتى داخل الدول، مثل سورية ولبنان والعراق.‏


باختصار، يصعب العثور على شيء واحد يمكن أن يجعل المرء يأسف على مغادرة بايدن، حتى مع سوء البدائل. وقد فضل الناخبون الساخطون من اختياراته المتواطئة في جرائم الحرب والمذابح حتى دونالد ترامب، الذي لا يقل افتقارا للإنسانية في التعامل مع العرب والفلسطينيين -أو حتى عدم المشاركة في الانتخابات التي تطرح خيار السيء والأسوأ. 

وقد يحلم المرء بأنه إذا كان بايدن قد تواطأ في الحرب الوحشية على غزة بسبب ضغوط الانتخابات، فإن أمامه فرصة ليحاول غسل بعض الدم عن يديه في الفترة الباقية من ولايته بعد ذهاب الضغوط. لكنّ سيرته تقترح أنه لن يفعل.