أعلن انضمامي إلى قوى الشد العكسي
منذ يومين أمضيت وقتًا جميلا مع الدكتور عبدالله رجا الزعبي. لقد أنهى عامة الثاني والتسعين منذ أسابيع، ولا يزال يعمل في مكتبه خارج بيته.
سألته بسرعة عن تقديره لتعلميات نظام الخدمة العامة الجديد، فقال لي: لقد انتهت الوظيفة العامة في الأردن.
سيرته العملية طويلة جدا، أغلبها في ميدان الإدارة العامة، تخطيطا وتدريبا وتنظيرا، أكثر من عشرين سنة منها في الأردن، وجزء آخر منها في الخارج كخبير منتدب من الأمم المتحدة في مجال الإدارة العامة في 71 بلدا في مختلف قارات العالم. لقد وضع أمامه خريطة العالم وفيها 71 نقطة لمواقع خدمته في الإدارة العامة.
ما يهمني هنا هو خبرته في بلده، فهو من المجموعة المؤسسة لأول هيئة مختصة بتطوير الإدارة العامة في منتصف ستينات القرن الماضي، ثم أسهم في تأسيس معهد الإدارة العامة الذي أصبح مرجعا على المستوى العربي في السبعينات وحتى منتصف الثمانينات. وبسبب من خبرته تلك، طًلب الزعبي للعمل عربيا وأمميا وخاض تجربة استثنائية فعلا وقد وثقها في سيرة ذاتية يعمل على كتابتها بعنوان "العالم قريتي"، وفيها فصول في غاية الأهمية والمتعة أيضا.
لعل أهم ما يميز تجربته، هو أنه ينتمي إلى مجموعة استطاعت تشغيل ماكنة التفكير الوطني إلى جانب الاطلاع النشيط والعميق على ما توصل إليه العالم في التطبيق والنظرية. لم يسمحوا للخبرة الدولية التي صُنعت في مجتمعات أخرى أن تستبيح مؤسساتهم وبلدهم، وفي الوقت ذاته خاضوا صراعا طويلا مهذبا محترما مع من سبقهم، وفي المذكرات إشارات في غاية التقدير للجيل الأسبق من القيادات الإدارية رغم الاختلاف معه.
مسألة "التفكير الوطني" كانت ملمحًا أساسيًا ومهمًا في تجربة كثير من القطاعات الأخرى في بلدنا. وقد اتاح لي اهتمامي بالأرشيف والتاريخ الاجتماعي فرصة الاطلاع على كيفية بناء قطاع التعليم المدرسي والجامعي لاحقا، ثم قطاع الصحة، وكلاهما صنع بمحبة وإرداة وتصميم وبالجهد الذاتي وبالحس العالي بالمسؤولية.
استمعت إلى قصص في منتهى الجمال، رغم ما فيها من مشاق..
للأسف نسيت اسم ذلك الموظف الكركي في قسم التخطيط في وزارة التربية نهاية الستينات، الذي حدثني عن وكيل الوزارة التربوي الشهير حكمت الساكت عندما دخل عليهم (هو واثنين من زملائه) وسألهم عن عملهم، فقالوا له: "نحن قسم التخطيط".
فسألهم: لماذا انتم هنا؟ وماذا تخططون في مكاتبكم؟ عليكم ان تكونوا مثل بائع القماش الدوّار، يحمل مدة القماش على كتفه ويتجول بين الناس يُفصّل لهم على مقاساتهم". ثم شرح لي عن بعض الجولات التي كادوا في إحداها يفقدون حياتهم.
اسألوا الدكتور زيد حمزة الذي كزميله عبدالله الزعبي أكمل عامة الثاني والتسعين مؤخرا، عن فكرة تأسيس المراكز الصحية وتوزيعها في كل المواقع، وكيف تمكن كوزير للصحة من تدبير المال لإنشائها، من أموال كانت مودعة "على السكيت" وبشكل قانوني! ولكنها غير مستثمرة لمصلحة الوزارة.
حتى في قطاع مكافحة الفقر، الذي أحيل منذ عقود إلى الجهات الدولية ووكلائها المحليين، بعد ان كان تجربة وطنية بالكامل، صممت محليا، بكوادر محلية والتنسيق مع أكاديميين محليين في الجامعة الأردنية... رحم الله مؤسس صندوق المعونة الوطنية الدكتور محمد الصقور.
الكلام يطول كثيرا...
وما أكتبه هنا ليس مجرد حنين وتغن بالماضي، وبالطبع سيكون من السذاجة الظن بإمكانية العودة إلى الماضي متجاوزين التغيرات.
لكن ما هو ممكن ومطلوب وضروري ولا بديل عنه، هو العودة إلى تشغيل ماكنة التفكير الوطني عندما يتعلق الأمر بالقضايا الوطنية.
لا أحد في هذا العالم، ولا مستشار ولا جهة ولا شركة دولية، مهما بلغت من العلم والخبرة يمكنها أن تصنع لنا حلولا لقضايا متربطة بعمق تركيب بلدنا الاجتماعي والثقافي. كل ما يمكن أن نستفيد منه من أفكار الخارج، ينبغي أن نعيد انتاجه وتعريفه وطنيا. إن مجمل ما يجري في العقود الثلاثة الأخيرة هو مجرد ترجمات، ومسرحيات تحديث غريبة، والنتائج لغاية الآن، تدميرية في التعليم والصحة وفي الإدارة العامة وغيرها.
أفكاري هذه تصنف ضمن أنشطة قوى الشد العكسي. وأنا أعلن انضمامي إلى الشد العكسي بالمعنى الذي أشرت إليه. إن مثل هذا الشد "العكسي" هو الطريق الوحيد نحو "التقدم" الفعلي، إذا اردنا للتقدم أن يطال الجميع ولا يقتصر على القلة.