رحلة الهرب إلى قبرص

خيرالله خيرالله

إذا وضعنا جانباً شهادة حسن السلوك الذي أعطاها حسن نصرالله، الأمين العام لـ"حزب الله"، لرئيس مجلس النواب نبيه برّي ورئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي، مبدياً رضاه عن تصرفاتهما، يمكن القول إنّ الخطاب الأخير لـ"المرشد الأعلى" في لبنان كان خطاباً تصعيدياً بكلّ المقاييس. يبدو الخطاب بمثابة تصعيد في المجهول بعدما طال، حتّى، دولة قريبة عضواً في الاتحاد الأوروبي، هي قبرص. بدا ذلك افتعالاً واضحاً للإساءة إلى بلد لم يؤذِ لبنان يوماً.

 

على العكس من ذلك، تفهّمت قبرص في الماضي القريب الوضع اللبناني في كلّ وقت. ساعدت اللبنانيين في الظروف القاسية التي مروا بها منذ عام 1975. يدعو ذلك إلى التساؤل عمّا إذا كان المطلوب من حسن نصرالله استكمال مسلسل عزل لبنان عن محيطه، وهو عزل نجح الحزب نجاحاً منقطع النظير في تحقيقه، خصوصاً في ما يخصّ توتير العلاقة مع دول الخليج العربي التي كانت امتداداً للبنان وعمقاً له ومصدر دعم للبلد. كانت دول الخليج العربي، ولا تزال، دول الخير، كلّ الخير، للبنان واللبنانيين من دون أي تفرقة بين الطوائف والمذاهب والمناطق اللبنانيّة.

 

لماذا السعي إلى النيل من قبرص وتهديدها؟ من الواضح أنّ حسن نصرالله يسعى إلى الهرب من واقع افتعلته الميليشيات المذهبيّة، التابعة لـ"الجمهوريّة الإسلاميّة" في إيران، التي يقف على رأسها. إنّها رحلة الهروب إلى قبرص من حرب تخوضها إسرائيل فعلاً في لبنان. لم يكن ينقص سوى أن يتحدث حسن نصرالله عن قبرص وما بعد قبرص، مثلما تحدّث في الماضي عن "حيفا وما بعد حيفا". كانت النتيجة أن الانتصار الوحيد الذي حقّقه الحزب كان انتصاراً على لبنان واللبنانيين يتدمير مؤسسات الدولة اللبنانية، أو ما بقي منها، ومن مقومات وجود البلد... بما في ذلك القطاع المصرفي.

 

تخوض الدولة العبريّة بالفعل حرباً مع لبنان. تخوض، على طريقتها، حرباً افتعلتها إيران على هامش حرب غزّة. ليس مستبعداً أن تتفادى إسرائيل حرباً شاملة غير مضمونة النتائج تشمل اجتياحاً للأرض اللبنانيّة، خصوصاً في ضوء ما واجهته في غزّة. ذهبت إسرائيل إلى حد تدمير غزّة عن بكرة أبيها وتهجير أهلها في غياب القدرة على تحقيق انتصار حاسم على "حماس". تحلم "حماس" بالعودة إلى حكم غزّة. أي أرض ستحكمها الحركة التي ترفض أخذ العلم بما حلّ بالقطاع، الذي لا تزيد مساحته على 365 كيلومتراً مربّعاً، والذي يبلغ عددهم نحو مليونين ونصف المليون نسمة؟

 

ليس ما يمنع إسرائيل في الوقت الراهن، في ضوء إصرار "حزب الله" على رفض تنفيذ القرار 1701 وتمسكه بربط مصير لبنان بمصير حرب غزّة، من تكرار تجربة غزّة في لبنان. ثمّة إشارات كثيرة إلى أنّها بدأت في ذلك، والدليل حجم الدمار في القرى والبلدات الحدودية وطبيعة القنابل المستخدمة والتي تستهدف ضرب الزراعة والأراضي التي تصلح للزراعة.

 

مثلما ترفض "حماس" أخذ العلم بما حلّ بغزّة بسبب "طوفان الأقصى"، يرفض "حزب الله" أخذ العلم بما يعاني منه لبنان، والقرى الحدوديّة تحديداً، نتيجة ربط البلد بحرب غزّة ابتداء من 8 تشرين الأوّل (أكتوبر) الماضي. يومذاك، أعلن "حزب الله" فتح جبهة جنوب لبنان. صحيح أن عشرات آلاف الإسرائيليين المقيمين في مستوطنات قريبة من الحدود اللبنانيّة لا يستطيعون العودة إلى بيوتهم، لكن الصحيح أيضاً أن مجموعة من القرى والبلدات اللبنانية تعرّضت لدمار كبير، وأنّ أهل هذه القرى والبلدات لا يستطيعون بدورهم العودة إلى بيوتهم. من يعوض هؤلاء في يوم من الأيّام، في حين ستكون إسرائيل قادرة على جمع ما يكفي من التبرعات من يهود العالم ومن الحكومات الغربيّة لجعل أهل المستوطنات يعيشون حياة طبيعيّة.

 

قرّر "حزب الله"، بطلب إيراني، خوض الحرب مع إسرائيل. هذه الحرب دائرة بالفعل، ولا حاجة إلى التذكير بقواعد الاشتباك التي يتحدث عنها حسن نصرالله بين حين وآخر، مهدّداً بخرقها. تخرق إسرائيل هذه القواعد كلّ يوم، ونراها تركّز حالياً على مثلث صيدا – صور – النبطيّة غير آبهة بردات فعل الحزب وأسلحته وما يقوم به من حركات ذات طابع مضحك من نوع الكلام عن طائرة مسيرة سميت "هدهد" التقطت صوراً جويّة لمدينة حيفا، ولمواقع معينة فيها.

 

لا مجال للمكابرة. كان قرار فتح جبهة الجنوب اللبناني والإعلان عن أن هذه الجبهة ستبقى مفتوحة في غياب وقف دائم لإطلاق النار في غزّة بمثابة جريمة أخرى في حق البلد وأهله. لا بدّ من وضع حدّ لهذه الجريمة التي هي جريمة في حقّ كل لبناني، خصوصاً أهل الجنوب الذين يحاول حسن نصرالله إقناعهم بفائدة "الشهادة" بدلاً من إقناعهم بفائدة الحياة والعيش الكريم بعيداً عن أي نوع من الحروب والانتصارات الوهميّة. فمثل هذه الحروب والانتصارات الوهميّة لا يقدّم ولا يؤخر. إنّها الطريق الأقصر لمزيد من الخراب والدمار والبؤس، بل هي الطريق الأقصر للهرب من الحقيقة... إلى قبرص الجزيرة الهادئة القريبة من لبنان والتي استطاعت بناء نفسها بنفسها بعد تجربة مرّة في عام 1974. كانت تلك تجربة جعلتها جزيرة مقسمة تحتل تركيا نحو 35 في المئة من أراضيها.

 

تقول الحقيقة إن الأكثريّة الساحقة من اللبنانيين تتعاطف مع أهل غزّة الذين يعانون من الوحشية الإسرائيلية، وهي وحشية ما كانت حكومة بنيامين نتانياهو قادرة على ممارستها لولا "ما قامت به حماس" في 7 تشرين الأوّل (أكتوبر) الماضي، عندما شنّت هجوم "طوفان الأقصى. لكنّ هذه الحقيقة تقول أيضاً إن أكثرية اللبنانيين ترفض ربط البلد بحرب غزّة. من يجعل حسن نصرالله يتصالح مع هذه الحقيقة التي يهرب منها إلى قبرص؟ ذلك هو السؤال المحيّر الذي لا جواب عنه سوى اللعبة الجهنميّة التي تدور في لبنان، وهي لعبة إيرانيّة. تدور هذه اللعبة على حساب لبنان واللبنانيين، فيما لا همّ آخر لدى "الجمهوريّة الإسلاميّة" سوى صفقة مستحيلة مع "الشيطان الأكبر" الأميركي.