الطوفان إذ يوحد انقسامات الأمة

محمود أبو هلال
يميل كثير من نخب هذه الأمة إلى المناكفة على هذا الفضاء وفي الصالونات السياسية في ما يصدرونه من أحكام حاسمة في الشأن السياسي القومي المتعلق بالقضية المركزية المقدسة.
الانقسامات الأيديولوجية والمذهبية والطائفية والعرقية والمناطقية والجهوية وحتى الشخصية.. هي معطى يتم الحرص على إدامته ورعايته من مهندسين يشتغلون على الأمة منذ قرنين على الأقل كشرط لعدم التقدم ومن ثم بقاء الكيان.  
الأمر لم يخلو من دعوات شاعرية لتجاوز هذه الانقسامات أو الغضب العاطفي منها أو ادعاء كل تيار أنه يتجاوزها بعرض سياسي يزعم وحدة الصف، وهو في الحقيقة ينتج انقساما آخر. تلك الدعوات لم يكن منها جدوى ولذلك ضيعت هذه النخب من كل الأطياف كل فرص الدخول للتاريخ عبر التحرر الوطني والديمقراطي وبقيت على امتداد هذه العقود تلوك صراعاتها الفارغة واشكالياتها المضروبة ولم تنفع لا مزاعم حداثة ولا مزاعم تأصيل وانتهت كل التيارات والمدارس إلى الخيبات والانكسارات وانتاج أجيال وراء أجيال تلوك نفس السرديات أبا عن جد في لعبة ترديد مكَرَّر بين قلاع أيديولوجية متقابلة وسط صحراء عربية من دول وشعوب ونخب تثرثر وتتجادل في اللامعنى وتنهزم باستمرار.
الديمقراطية أولا.. الاشتراكية أولا.. الحرية أولا.. الوحدة هي الحل.. الاسلام هو الحل.. العلم والفيزياء هما الحل..الحداثة هي الحل.. هذه كلها جمل بسيطة انبنت جُل تيارات الأمة وانتهت كلها الى خيبات. 
في ذات الوقت كانت وما زالت تلك النخب تشعر بالأسف في كثير من الأحيان، من الجرم الفكري الذي يرتكب بحق الشعوب وأنه كان عليهم أن يشعروا بالمسؤولية الأخلاقية ليقولوا للشعوب ما يجب قوله، لا ما تفرضه الأيدولوجيا والتموضعات التي هم فيها كتيارات سياسية، موالاة ومعارضة.

من ذلك ما نراه مثلا من طرح لأصدقائنا من التيارت القومية العروبية واليسارية  ومن التيارات الإسلامية على حد سواء.
حيث يرى بعض مؤيدي التيار الإسلامي أنهم كانوا الأصوب، كونهم ناصروا الديمقراطية وتصدوا للاستبداد اعتمادا على اصطفافات مسألة الربيغ العربي.  
في حين يرى القومي العروبي واليساري أن التموقعات الجيوستراتيجية في العشرية الماضية وبتحليل مجريات الصراع بين المقاومة والكيان وبالنظر الى تحولات أهم فصائل المقاومة في مؤتمرها الأخير منذ سنوات، ومراجعة خطها السياسي وتغيير قيادتها وبالنظر إلى حقائق الوقائع على الأرض في سوريا واليمن وبالنظر إلى تشكلات المحاور المتقابلة في المنطقة، يصبح القومي واليساري صادقا بادعاء الانحياز الى المقاومة وبتالي إلى الشعوب، لإنه ربما كان في المسألة القومية وتحليل الصراع في المنطقة متموقعا في المكان الصحيح.

وضعنا العربي والقطري مركب ومعقد جدا، ويجب ان نقرأه بعقل مركب.
فبناء المعادلة بين المقاومة والمواطنة مسألة فكرية وعملية معقدة لا يمكن حلها بوصفات مبسطة.. وترتيب تحالفات الأمة وأولوياتها ومداخل تحررها الشامل سؤال كبير لا نجيب عنه بجرة قلم.. لابد من تواضع كبير وبحث وتفكير ونقاش واعترافات متبادلة وقراءة معمقة لمسار المقاومة الناجح بعد الطوفان ولابد من قراءة تجارب التحرر والاستقلالية الناجحة المجاورة لنا كأمة عربية للاستلهام منها..تركيا، ماليزيا، باكستان، اندونيسيا، وصولا لتخوم افغانستان وطالبانها..
ماذا لو قلنا أن خيار التيار الإسلامي في العشرية الماضية كان صائبا قُطريا ناحية المواطنة والانحياز للديمقراطية؟
وماذا لو قلنا أن خيار التيار القومي العروبي واليساري في العشرية الماضية كان صائبا قوميا في قراءة المؤامرة الأطلسية وأنه تموقعه كان جيوستراتيجي صحيح؟. 
ثم ماذا لو قلنا أن المقاومة انتجت اليوم مشروعا وطنيا مشدودا الى توكل رباني، حددت معالمه بتبسيط بعيد عن كل ثرثرة وتعقيد واستقطابات مزيفة، عبأت حوله رجالا ونساء تم بناؤهم  بعقيدة مصممة، وضمنت له حواضن وداعمين وأعدت له قوة؟. 
ماذا لو قلنا أن هلال المقاومة المجيدة بأهله وصموده بداية صوم عن المناكفات والجدال، ومجالا مضيئا لصناعة التاريخ؟. وماذا لو جعلناه قاسما مشتركا بين كل التيارات يلتفون حوله ويدعموه ويساندوه ويستلهموا منه.
أوليس المشروع وأهله والقوة والحاضنة في الإقليم المحصن والممتد... هي عوامل تقدم ونصر لهذه الأمة؟.