هل تجاوز الصفدي “السقف الواقعي” للدبلوماسية الأردنية؟

د. محمد أبو رمان

في أوقاتٍ في العلن وغالباً في الجلسات المغلقة يوجّه كثير من المسؤولين والسياسيين انتقادات حادّة لوزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، إذ يرون أنّه تجاوز سقف “الواقعية السياسية” منذ الحرب على غزة، عبر تصعيد غير مسبوق في الخطاب الديبلوماسي الأردني في مواجهة إسرائيل، مما قد يطيح في الأردن، في مرحلة ما بعد الحرب، في مواجهة ليس فقط مع إسرائيل، بل مع اللوبي الصهيوني القوي والنافذ من جهة والعديد من الدول العربية التي تضمر مواقف ضد حركة حماس بصورة كبيرة في اللقاءات المغلقة.

يضيف أنصار هذه المدرسة، وهم غالباً من التيار المحافظ الرسمي، أنّ الصفدي يتقن لغة الإعلام وليس الديبلوماسية، وأنّ التصريحات التي يقوم بها والجهود الماراثونية له ( إذ قام بعدد من الرحلات التي قد تدخل رقم غينتيس، لزيارات وزير خارجية لدولة ما في العالم على خلفية الحرب على غزة) ستضع الأردن في “اليوم التالي” للحرب في صف الخاسرين، وسندفع ثمناً كبيراً عندما تبدأ إجراءات ترتيب المنطقة بعد الحرب، وتشكيل النظام الإقليمي الجديد.

ثمة ما يؤشر مما يطفو على السطح أنّ الخلافات مع الصفدي لا تقف عند حدود “الكلام” في الأوساط السياسية والنخبوية، بل يبدو أنّ هنالك تبايناً في أوساط القرار الأردني ليس في الموقف ضد الحرب الإسرائيلية على غزة، ولا في جوهر الموقف، فهو – في المحصلة- قرار الدولة والملك بوصفه رأس صنع القرار، ولكن، وفقاً لهذه الرؤية، فإنّ الخلاف مع الصفدي في “الدرجة” أو “السقف” الذي من المفترض أن تقف عنده تصريحات، أو بتعبير بعض السياسيين المحافظين، استفزازات الصفدي للجانب الإسرائيلي!

على ما يبدو أيضاً أنّ هذه الأحاديث المغلقة لم تعد بالقدر الكبير من التكتم السابق، فأصبح الحديث عنها علناً، على الأقل في أوساط سياسية معينة، وفي العديد من اللقاءات المغلقة وورشات العمل، إذ يجاهر بعض السياسيين بالقول: ليست حربنا؟ ولا يجوز أن نتورط في مواجهة لا حيلةً لنا فيها، فضلاً أنّنا لا ننحاز في تلك الحرب لأيّ طرفٍ منها، سواء كان العدوان الإسرائيلي أو الحلف الإقليمي الذي يدعم حماس، وبخاصة إيران وحلفاؤها في المنطقة.

بحسبة بسيطة، وفقاً لهذا الاتجاه، فإنّ الأردن لم يكسب أي طرف في الصراع الدائر؛ لا حماس وأصدقاءها الذين يكنون الخصومة والعداء للأردن (كما كشفت تسريبات أخيرة عن تهريب أسلحة، وفق الرواية الرسمية)، ولم يتردد قادة حماس من تجاوز الخطوط الحمراء في مخاطبة الشارع وتجاهل الدولة، فضلاً عن تجاهل الدور الكبير في الديبلوماسية الأردنية من قبل قادة الحركة في تصريحاتهم وإشاداتهم بالمواقف الإقليمية. وعلى الجهة المقابلة فإنّ الإسرائيليين وبعض الأصدقاء العرب واللوبي الصهيوني يشعرون بالغضب الشديد من الدور الذي يقوم به الأردن، بخاصة من تصريحات الصفدي ونشاطه المكثف منذ 7 اكتوبر!

المفارقة أنّ هذه الانتقادات التي بدأت تتصاعد وتخرج إلى العلن في مواجهة الصفدي تأتي في وقت يتمتع به الرجل بشعبية جارفة في الأوساط الأردنية، واحترام شديد في الأوساط العالمية والعربية، بخاصة الفلسطينية، إلى الدرجة التي لا يتردد معها العديد من السياسيين الفلسطينيين بالقول بأنّ الصفدي هو أفضل “وزير خارجية لفلسطين”، فضلاً أنّ الصفدي يتمتع بكاريزما عالية، وقد قال لي ديبلوماسي أوروبي عريق، في حديث خاص، أنّ الأوروبيين يعتمدون اليوم بدرجة كبيرة في تقييم وتحليل الوضع في المنطقة على ما يقوم به الصفدي من بناء سردية عميقة عقلانية لما يحدث، حتى أنّ أحدهم وصف ذلك بـ “The Safadi Effect” (تأثير الصفدي).

يضيف المؤيدون للصفدي أنّه لم يخرج في مواقفه وتصريحاته عن الخطوط التي حددها الملك، ولم يتجاوز سقف الملك نفسه، فالملك في خطابه في القاهرة غداة الحرب الإسرائيلية، وخلال جولاته الأوروبية ولقاءاته بقيادات الدول الأوروبية وبالرئيس الأميركي جوزيف بايدين يتحدث بسقف مرتفع، ولا يتردد من توجيه انتقادات لاذعة لإسرائيل، بخاصة رئيس الوزراء بنيامين نتيناهو، ويكرس كل جهوده السياسية في هذه المعركة الديبلوماسية، وهو – أي الملك- رأس عملية صنع القرار والذي يرسم الأدوار والسقوف، وبالتالي فإنّ الصفدي، عملياً، وهو المعروف بولائه الشديد وقريبه وعمله مع الملك لفترات طويلة، لا يخرج عن هذا الإطار، بل إنّ الصفدي نفسه لا يتردد بالقول في الجلسات المغلقة Off Record مع الكتاب والإعلاميين بالقول بأنّ ما يقوم به ويصرح به لا يتجاوز 40% مما يسمعه ويراه من الملك في الموقف مما يجري في غزة، ومما يعزز هذا التحليل أنّ تصريحات الصفدي ومواقفه تتناغم تماماً أيضاً مع لقاءات الملكة التلفزيونية المتتالية التي وجهت فيها انتقادات حادة لرئيس الوزراء الإسرائيلي.

الصفدي معروفٌ بفدائيته الشديدة للدولة، وله سوابق في ذلك، كما يشير مراقبون متابعون للمشهد، وهو مستعد أن يدفع ثمناً شخصياً، وقد فعل سابقاً، لذلك هو يعلم تماماً أنّ دوره السياسي كوزير للخارجية قد ينتهي مع نهاية الحرب، في حال بدأت ترتيبات جديدة، وفي مرحلة سيتم فيها تغيير العديد من اللاعبين السياسيين، بخاصة في دولة مثل الأردن للجيوبولوتيك كلمة قوية ليس فقط في السياسات الخارجية بل على السياسات الداخلية، لكنّ الصفدي يدركة أيضاً أنّه إذا خرج بهذه الصورة، فإنّه خروج مشرّف!

بالعودة إلى القضية الرئيسية؛ ما الذي يعبّر عن موقف الدولة هل هي تصريحات ومواقف الصفدي أم الأراء المقربة من مراكز القرار وتنتقد الرجل؟! بتركيب المشهد وتجميع مقاطعه المختلفة؛ فمن الواضح أنّ هنالك أكثر من خط وخيط تعمل من خلالها ماكنة الدولة، وهنالك أكثر من بعد مركّب في حسابات الدولة، وهو ما يظهر في أحيانٍ متعددة كتباين في المواقف الخارجية والداخلية، فالصفدي على الصعيد الخارجي يمثل الموقف الرسمي الحقيقي، لكنّ هنالك خطوط أخرى وحسابات متنوعة تعطي الدولة مرونة في مرحلة لاحقة للتعامل مع استحقاقات كبيرة ومع احتمالات متعددة، وهنالك أيضاً حسابات معقدة فيما يتعلق بالمعادلة السياسية الداخلية بين الدولة والشارع من جهة وأطراف سياسية معارضة من جهةٍ أخرى.