السياسات المصرفية الراهنة: أهي الغراب الذي يعتاش على أنقاض الضنك؟

حازم الرحاحلة

منذ أعوام، وتحديدًا منذ تفشي جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19)، والعالم بأسره يمرُّ بظروف وتحديات اقتصادية وجيوسياسية صعبة جدًّا، لم يُشهد لها مثيل منذ زمن بعيد. واضطرت الدول وحكوماتها إلى التدخل بسياسات وبرامج متباينة في حجمها وأدواتها لاحتواء تداعياتها التي تشابكت بدورها لتنتج وجوهًا أخرى من التحديات. فالولايات المتحدة الأميركية، على سبيل المثال، أصبح جلّ اهتمامها وتركيزها مرتبطًا باحتواء معدلات التضخم المرتفعة التي كانت نتاجًا لسياسات التعامل مع الجائحة، ومحاولة احتواء تداعياتها الاقتصادية والاجتماعية بسخاء الإنفاق، وما ترتب على ذلك من اضطرابات في جانبَي الطلب والعرض. وقد أدّى ذلك كلّه إلى معدلات نمو اقتصادي هي الأعلى، ومعدلات بطالة هي الأقل، منذ أكثر من ثلاثة عقود. أما القارة الأوروبية، فكان اهتمامها، إضافة إلى مواجهة التضخم، مركّزًا على الخروج من حالة الركود الاقتصادي والتغلب على التحديات المرتبطة بإمدادات الطاقة. وكانت هذه هي الحالة العالمية بمجملها؛ تحديات مشتركة، ونتاجات مختلفة، وسياسات متباينة، ولكل دولة ما يشغلها.

لسنا في هذا السياق بصدد تناول اتجاهات تأثُّر الدول بارتباك المشهد الاقتصادي والجيوسياسي العالمي، بل إننا نهتمّ تحديدًا بديناميات أسعار الفوائد في الدول العربية، وبخاصة تلك التي ترتبط عملاتها المحلية بالدولار الأميركي. فهذه الدول لا تملك خيارًا سوى الالتحاق بركب السياسات التي يحددها البنك الفدرالي الأميركي لاعتبارات مرتبطة بمصلحة الاقتصاد الأميركي نفسِه؛ وهي تنصب حاليًّا في كبح جماح التضخم، وإن كان ذلك على حساب النمو الاقتصادي الذي بدأ في التباطؤ فعلًا على حساب شركائها الاقتصاديين وحلفائها الاستراتيجيين الذين يتأثرون سلبيًّا بهذه السياسات المقيّدة. وبطبيعة الحال، فهذا نهجٌ منطقي وموضوعي؛ فكل دولة تضع مصالحها الذاتية فوق كل اعتبار.

في الحقيقة؛ لا تمتلك الدول العربية، التي تنتهج سياسة تثبيت أسعار صرف عملاتها الوطنية بحسب الدولار الأميركي أو بسلة من العملات التي يندرج الدولار ضمنها، هامشًا من الخيارات عندما يرتبط الأمر بأسعار الفائدة؛ ذلك أنها ملزمة بضبط إيقاع الطلب على عملاتها الوطنية والحيلولة دون إتاحة المجال للمضاربات التي تلحق الضرر باقتصاداتها واستقرارها.

ربما ترتبط المسألة الأكثر إلحاحًا بكيفية التعامل مع ديناميات تغيرات أسعار الفوائد في هذه الدول والحد من تبعاتها السلبية على الاقتصاد والمجتمع، وهي مسألة تتعلق أساسًا بالبنوك المركزية التي تعتبر الجهة المعنية بالسياسة النقدية، وبتنظيم عمل الجهاز المصرفي الذي يخضع لاعتبارات احتكار القلة Oligopoly؛ وهي مهمّة تفرض عليها المحافظة على “التوليفة” المناسبة بين مصلحة البنوك باعتبارها رافعةً أساسيةً للنمو والتنمية الاقتصادية من جهة، ومصلحة المودعين باعتبارهم مصدرًا للأموال التي تشغلها البنوك، والمقترضين باعتبارهم مصدرًا لأرباحها، من جهة أخرى. ويلحق أي خلل في هذه التوليفة المعقدة الضررَ حتمًا بالاقتصادات الوطنية ويزيد معاناة مختلف مكوناتها، أفرادًا ومؤسساتٍ.

يمكن أن نتأمل الارتفاع الاستثنائي في الأرباح التي تحققت لدى غالبية البنوك العاملة في الدول العربية على مدار السنوات الأخيرة، وقد أصبحت محل فخرٍ واعتزاز لدى القائمين عليها، وإن كانت تمثل “رقصًا على جراح” الغالبية العظمى من المقترضين، أفرادًا ومؤسساتٍ. فالعوائد التي أخذت تتعاظم في السنوات الأخيرة ما هي إلا لمصلحة فئة محدودة من المساهمين، وإن كانت الحكومة والصناديق العامة حاضرة في هياكل ملكيتها. فكيف لجهاز يفترض أن يستمد قوته ومتانته من أداء الاقتصاد المحلي أن يحقق أرباحًا منقطعة النظير في حقبة زمنية تُعدّ الأصعب اقتصاديًّا منذ عقود؟ إنّ اقتصادات غالبية الدول العربية تعاني تباطؤًا في معدلات نموها، وغالبية الشركات والمؤسسات فيها تخوض صراعًا حقيقيًّا للبقاء، ويعاني الأفراد ضنكَ العيشِ بسبب محدودية مداخيلهم وضعف فرص التشغيل بالنسبة إليهم، وهي حقيقة تَظهر جليًّا في معدلات البطالة الآخذة في الارتفاع في غالبية الدول العربية.

لن نلج كثيرًا في الحيثيات الفنية التي قد تفسّر هذه الحقيقة الصعبة، لكنّ مردَّ ذلك يعود إلى الأُطر التنظيمية التي تحكم عمل الأجهزة المصرفية، والتي تسمح للبنوك بسرعة الاستجابة للارتفاعات التي تطرأ على أسعار الفائدة عندما يتعلق الأمر بالمقترضين والتلكؤ في ذلك تجاه المودعين، فضلًا عن الهامش الملحوظ بين أسعار الفائدة على الإقراض والإيداع؛ وهو أمرٌ يستوجب الوقوف عنده في ظروف اقتصادية مشابهة. يضاف إلى ذلك تلك الأرباح الطائلة التي تجنيها البنوك مقابل استثمارها لأموال المودعين في السندات الحكومية، والتي يتحملها في الحصيلة دافعو الضرائب. في الواقع، تعمل جميع الترتيبات التي تحكم العلاقة بين من يملكون المال من ناحية، ومن يحتاجون إليه من ناحية أخرى، وهم الأفراد أنفسهم والمؤسسات نفسها، لمصلحة من يحدد هذه الترتيبات نفسَها ويديرها؛ وهي البنوك ذاتها في ظل تراجع البنوك المركزية عن الاضطلاع بأدوار فاعلة لضبط إيقاع هذه الترتيبات.

لا تكمن الإشكالية التي نعاصرها اليوم في استئثار الجهاز المصرفي بقدرٍ كبير من الربحية، بل في تعميقه لظروف اقتصادية صعبة واستغلاله إيّاها، وهي التي كان من الواجب أن يساهم في التعافي منها. فالمساهمات الاجتماعية، الموسومة بالخجل، التي تقوم بها البنوك بين الفينة والأخرى في إطار “بوابة المسؤولية المجتمعية”، ما هي إلا “ذَرٌّ للرماد في العيون”، ولا تعفيها من دورها الوطني المسؤول لكي تكون جزءًا من الحل، بدلًا من أن تكون جزءًا من المشكلة. أما ثناء الحكومات عليها وعلى أدائها، فما هو إلا دليلٌ صارخٌ على خللٍ ما في قواعد الحاكمية، ثمّ إنه استشهاد وتباهٍ في غير محلّه.

يجب أن تتمتع البنوك المركزية ببصيرة اقتصادية أكثر عمقًا، وأن تتصرف بفاعلية عندما يتعلق الأمر بمصلحة الاقتصاد بمختلف مكوناته. وإذا حالت الأُطر التنظيمية التي تعمل بموجبها دون تحقيق ذلك، فإنّ على السياسة المالية أن تضطلع بدور ما في هذه المسألة؛ من خلال سياساتها الضريبية التي يجب أن تعيد توزيع الدخل على نحو لا يلحق ضررًا بالجهاز المصرفي وتثبيطه عن النمو والتطور، على قاعدة “لا ضرر ولا ضرار”. وهذا الأمر لا يتعلّق بالبنوك فحسب، بل إنه يشمل جميع الأنشطة التي تعمل بعيدًا عن أجواء المنافسة وخصوصًا تلك التي تتمتع بميزات احتكارية تُقرُّها الحكومات والجهات التنظيمية.

إنّ ظاهرة الأرباح الاستثنائية التي تجنيها البنوك في الوقت الراهن ليست حاضرة في الدول العربية وحدها، بل هي حالة عابرة للحدود، ولكن ما يجعلها أشد وطأةً في بلداننا أنها تمثل “رقصًا على جراح الآخرين”، وتزيد من ضنكهم ضنكًا.