القوّة الناعمة للدولة الأردنيّة
موسى برهومة
الاستقلال، الذي تحين الآن ذكراه، يتعيّن أن يكون محطّة للتأمّل فيما مضى من عقود تمكّنت خلالها الدولة الأردنيّة من أن تصمد رغم العواصف العاتية. وفي مأثرة الصمود عبرة ودرس يُروى للأجيال. بيْد أنّ الأمر لا يتوقّف عند هذا الحدّ، ولا يجب أن تغدو ذكرى الاستقلال، فقط، باعثاً على الاحتفال والزهو، بل أيضاً أن تكون منصّة للعمل والقفز الواثق إلى الأعلى، والتحديق في صورة الأردنّ الذي عبر المئوية الثانية.
السؤال الجارح: هل هذا هو الأردنّ الذي نريد؟
وحتى لا نسقط في فخاخ الشكوى والتبرّم من أحوالنا، فإنّ الغِيرة التي تأكل قلبي وأنا أعيش خارج الأردن وأتأمل أحوال بلاد نهضت وتحوّلت وبنت حضارة في زمن قياسيّ، تدعوني أن أتداول في جملة أفكار مجنّحة، لكنّها ممكنة عن كيفية إعادة تصنيع وإنتاج القوّة الناعمة للدولة الأردنيّة. والمقصود هنا ليس خَلقاً وإنّما بلورة.
والبلورة تعني أنّ لدينا مقوّمات القوّة الناعمة، لكنّها غير مستغلَة، أو غير منظورٍ إليها بعين الاهتمام الذي يليق بقيمتها. فالأردنّ بموقعه الجغرافيّ والتاريخيّ يمثّل بيئة خصبة ومتنوّعة للقوّة الناعمة التي تبدأ من إشاعة الثقافة وتعميمها، ولا تنتهي عند الرياضة. وبين هذين الحدّين كثير من التفاصيل التي أتمثّلها على هيئة أفكار مرسلَة.
المارّ في شوارع الأردنّ يلمس على الفور خلوّها من التماثيل والجداريّات واللوحات الفنيّة، وهذا منشؤه خوف، بل "جُبن" السلطة التنفيذيّة ممن تعتقد أنّهم ذوو أصوات عالية، أو "جماعات ضغط" لأسباب دينيّة أو سياسيّة أو اجتماعيّة. أقول "جُبن السُلطة" لأنّ الفنّ أضحى إحدى المسلّمات الضروريّة لصناعة النهضة. والأردنّ في ذكرى استقلاله يحتاج إلى نهضة جديدة وشجاعة.
وفي التفاصيل أيضاً أنّ الأردن، الذي قال أحد المؤرّخين إنه يجب أن يُسيّج من شماله إلى جنوبه، ليغدو متحفاً طبيعيّاً، لا يجد من ينشر ثقافة المتحف لدى الجمهور، وهذه قوّة ناعمة لا مثيل لها في الأردنّ الذي نكاد لا نسمع أي فعل يتجلّى من خلال الكنوز التي تحويها المتاحف الأردنيّة المسيّجة بالجدران والحرّاس، وربما الخوف. أهو خوف من الإرث الحضاريّ؟
وماذا عن الموسيقى؟
لقد كان في الأردن منذ عقود طويلة فرق موسيقيّة جليلة الأثر والاحترافيّة، لكنّها تبدّدت واندثرت، ومنها فرق شعبيّة تُعنى بالتراث. وإن أتحسّر فإنني أتحسّر على أوركسترا المعهد الوطنيّ للموسيقى، وفرقة الفحيص، وفرقة معان للدبكة، وفرقة بلدنا، وفرق الرقص الشركسي، وسواها من فرق لا يمكن حصرها في مقالة قصيرة.
وأمّا عن الدراما فحدّث ولا حرج. ولن أقول كنّا وكنّا. ولكن مَن يجهل قيمة الدراما في خلق القوّة الناعمة لأي مجتمع، فإنه يحكم على نفسه بالخروج من التاريخ. لقد أبدعنا وصدّرنا للمحيط أعمالاً دراميّة بدويّة. لنتخصّص في هذا الحقل الذي لا مجازفة فيه على المستوى الاجتماعيّ والقيميّ، ولنعمل بسخاء من أجل إنعاش هذه الصناعة.
ولئن تحدّثنا عن الدراما، فإنّ تجربة صناعة الأفلام السينمائيّة التي تحثّ الخطى الواثقة من خلال الهيئة الملكيّة للأفلام، تستحقّ الإشادة والتثمين، وقد اكتسب هذا النجاح المبهر زخماً بوجود الأميرة ريم العلي.
القوّة الناعمة تحتاج، فضلاً عما تقدم، إلى روافع إعلاميّة مهمّة وجديدة تحاكي الثورات المتلاحقة في عالم الاتصال، ويمكن الدفع لبلورة هذا الأمر بإحياء المدينة الإعلاميّة التي تضمّ في جنباتها كلّ صنّاع المحتوى في الأردن، وكذلك صناعة البرمجيّات، ولدينا عباقرة في هذا المجال، لو تفتّشون، يا سادة، بعمق وإخلاص.
وإن شاء امرؤ أن يصنّف أبرز القوى الناعمة في العالم اليوم، فلربما يضع الرياضة، وكرة القدم خصوصاً، في طليعة هذه القوى. وهو محقّ في ذلك.
لدينا لاعبون محترفون، وأندية عريقة، وربما بقليل أو بكثير من الخيال (ولا أقول المجازفة) يمكننا بناء تجارب في الاحتراف الدوليّ، على شاكلة ما يجري في دول الجوار. ولكن كيف يمكن أن يتأتّى ذلك ونحن لا نملك "ستادات" كافية، وليس لدينا ملاعب احترافيّة، ومدننا الرياضيّة شحيحة أو قليلة الموارد، وبالتالي فقيرة الإنتاج. الاستثمار في الرياضة كنز، لو كنتم تعلمون.
الأفكار كثيرة وموّارة في رأسي. لكنّني أخشى أن يُطل أحدهم فيُشهر في وجهي سيف الدعم والتمويل، وأنّ ميزانية الدولة متآكلة وأنّ الديْن العام... إلى آخر هذه المعزوفة المخدّرة التي لا تصبو إلى البحث عن حلول خلّاقة من خارج الصندوق لبناء قوّة ناعمة للدولة تحميها، في نهضتها الثانية المأمولة، من حمّى التطرف والتزمت والجهالة، وتضيء، في المقابل، في نفوس الناس المكتظّين بالتعب واليأس، قبساً من أمل.
وفي التفكير خارج الصندوق نرى أنّ ثمة مؤسّسات خاصّة صنعت فارقاً جوهريّاً في المجال الثقافيّ، وفي طليعتها مؤسّسة عبد الحميد شومان التابعة للبنك العربيّ. وأيضاً ثمة الجهود الثقافيّة لبنك القاهرة في المجال التشكيليّ (السمبوزيوم الدوليّ)، وقبلها كان للبنك الأهليّ جهود بارزة في إصدار الكتب. وهذا يعني أن تتولّى البنوك والشركات الكبرى المسؤوليّة الاجتماعيّة في أقصى تجلّياتها، وليس أن تكون مِنّة بغية الإعفاء الضريبيّ، أو صناعة "الشو".
يُروى عن ستيف جوبز أنّه قال إنّ التزاوج بين التكنولوجيا والفنون والإنسانيّات هو ما جعل قلب "أبل" يغنّي.