عن أردنيي التأسيس vis-à-vis أردنيي التجنيس
د. عبد الحكيم الحسبان
قبل أسابيع وفي حمأة السجال الذي دار إثر تصريحات أحد قادة المقاومة الفلسطينية، تم تداول أحد مقاطع الفيديو ذات المضمون اللافت على وسائل التواصل الاجتماعي وعلى نطاق واسع. وفي هذا الفيديو يظهر شاب مستلهما صورة من وصفته أم كلثوم في رائعتها "الاطلال" ب "وائق الخطوة يمشي ملكا" وليكشف لنا هذا الشاب عن إختراع غير مسبوق في فهم المجتمع والدولة ومكوناتهما في الاردن. فالشاب يدعونا إلى عدم وضع من هو أردني بالتأسيس في نفس سلة من هو أردني بالتجنيس، مطلقا لعبارة تضعه في مركز الدولة والمجتمع في الاردن، وهي تشبه كثيرا عبارة ديكارت التي تبدأ بمفردة "أنا" حين وضع نفسه في مركز الوجود لانه يفكر.
يقول الشاب "أنا أردني بالتأسيس مش بالتجنيس". تكشف العبارة التي اطلقها الشاب عن نزعة دائمة في تصنيف الاردنيين وفي وضعهم في تايبلوجيات، بل وعن جنوح دائم لاكتشاف ما يمكن أن يجعلهم مختلفين ومتمايزين لا موحدين، ومتجانسين، ومتشابهين، ومتكاملين. لم يسهب هذا الشاب في شرح هذا التصنيف العبقري الذي قدمه لنا والذي أجزم أنه لاقى رواجا بين حشود التواصل الاجتماعي.
ذات يوم كتب المفكر الفرنسي المعاصر الشهير ميشيل فوكوه عن علم التصنيف أو التاكسونومي والذي بمقتضاه يقوم العقل الانساني بادراك الواقع وتمييز مكوناته، من خلال اختزال التنوع الشديد في مكونات الطبيعة في مجموعات أو تايبلوجيات بالاعتماد على عناصر التشابه والاختلاف بين هذه المكونات، ما يسهل فهمها وادراكها. وهو يلاحظ أنه هذه التايبلوجيات تتطور بتطور العقل والمعرفة الانسانيين. ويعطي مثالا للكيفية التي كان عقل القرون الوسطى يفهم ويصنف البشر ومن كانوا يعانون من بثور على الوجه أو المرض الجلدي. إذ كان عقل القرون الوسطى يفهم تشوهات الوجه على أنها خصال أخلاقية وليست خلقية بفتح الخاء وتسكين اللام. فالبرص أو بثور الوجه هو تشوه بل شذوذ أخلاقي وهو يشير إلى الشر الموجود داخل الانسان، فلا بد من إرسال من هو مصاب به إلى السجن، لعزله عن بقية المجتمع اتقاء لشره. ويلحظ فوكو أن تصنيف المجتمع لهذه السمات المرضية على الجلد لم يعد ذاته مع تطور الزمان. فما كان يرى على أنه أخلاقي بات المجتمع يصنفه ويراه على أنه طبي. وبدلا من ارسال الشخص للسجن بهدف عزله، بات لا يحتاج لارساله الى أي مؤسسة، وان كان يحتاج لذلك فيمكنه أن يذهب للمستشفى.
في خطاب تصنيف الاردنيين وفرزهم الى فريقين؛ تجنيس وتاسيس، يختلط البيولوجي بالاجتماعي بالسياسي. فمن طور خطاب تاكسونوميا الهوية الاردنية يبني افضليته على انه ينتمي بالبيولوجيا ورابطة الدم إلى الاجداد الاوائل الذين قاموا برعاية مشروع تاسيس الدولة، وهو يشير بذلك إلى اجداده ممن قاتلوا الى جانب من قاد مشروع تاسيس الدولة، وهنا نجد انفسنا نقف أمام من يريد أن يرث الدور السياسي المفترض من خلال أدوات البيولوجيا ونسب الدم. فهل صفة الاجداد المؤسسين تنتقل بالبيولوجيا للابن والحفيد وحفيد الحفيد. الانضمام لدعم مشروع تأسيس الدولة كان قرار سياسي اتخذه الجد فهل يستطيع الابن وحفيد الحفيد أن يرث الدور السياسي الذي حدث في لحظة من الزمن ليرثه من خلال علاقة الدم والنسب. فالانضمام قبل قرن ونيف لمشروع تاسيس الدولة هو قرار، وسلوك، وفعل وهو ليس صفة بيولوجية أو صفة قانونية قابلة للتوريث لانه لا ينتمي مطلقا للبيولوجيا. فقط في منطق أبطال تصنيف الاردنيين يختلط البيولوجي بالاجتماعي والسياسي فيصبح الاجتماعي بيولوجيا ويصبح البيولوجي سياسيا واجتماعيا.
في الخطاب الذي نسمعه بشكل دائم والذي لا يساوي بين الاردنيين ويضعهم في تصنيفات وفي هويات مختلفة بل ومتعارضة، نلحظ تعريفا متهافتا لجهة علميته ومنطقيته، لمفهوم الهوية وبالتالي فاننا نلحظ تهافتا لكل البنى التصنيفية التي يضعها هؤلاء. خطاب الهوية التصنيفي هذا في الاردن، يشبه نفس الخطابات التصنيفية لليمين العنصري التي تسود في كثير من دول العالم. فخطاب اليمين الفرنسي كما الالماني كما الهولندي، يقوم على نفس منطق التمييز المتهافت الذي يبشر به البعض في الاردن. ففي فرنسا ثمة صنفين من الفرنسيين؛ واحد يقصد به من كان فرنسيا ويحمل جذورا فرنسية، دون تحديد الى متى تعود هذه الجذور في بلد ودولة يزيد عمرها عن ستة قرون، وهناك من هم فرنسيون دون اطلاق صفة ذوي جذور. خطيئة الخطاب التصنيفي، أنه يبدأ بالتصنيف لينتهي به الامر ممارسا التمييز العنصري الكريه.
في خطاب تصنيف الهويات المتهافت الذي يتبناه البعض في الاردن ثمة مشكلة كبيرة في تعريف الهوية. فهم يصنفون الهويات ولكنهم لا يقدمون شرحا علميا ومنطقيا يتسق ومعنى مفهوم الهوية الذي يتبنوه كي يصنفوا على أساسه ووفقه. فيقدم هؤلاء الهوية وكأنها صفات جينية، أو خصائص بيولوجية، وهو ما لا يدعمه العلم مطلقا. فلم يثبت العلم حتى الان أي فوارق بيولوجية بين البشر، ومن يعتقد بهذه الفوارق تحركه غريزة العنصرية والتمييز وليس العقل والمنطق. وفي خطاب هؤلاء تبدو الهوية وكأنها "شيء" أو ماهية أو وجود يمكن تعيينه وهو كالصخرة يمكن رؤيته، وهو ثابت عبر الزمن ولا علاقة للزمن والتاريخ والناس به. فوفق هؤلاء فإن الهويات هي ماهيات مادية ثابتة، يمتلكها الناس، وهناك فئة امتلكتها وهناك فئة لن تمتلكها مهما طال الزمن.
منطق العلم والمنطق يقول أن الهوية الاردنية، كما أي هوية على هذه البسيطة، ليست سمات بيولوجية أو مجموع من الجينات، وحيث هناك من امتلكها وهناك من لم يمتلكها، ولن يمتلكها. بل هي بناء قيمي ومفاهيمي وممارساتي، وهي بهذا المعنى يمكن اكتسابها. فالمنطق العلمي يقول أنه وبالقدر ألذي نتصرف به كالفرنسيين، وبالقدر الذي نمارس القيم، وأنماط العيش الخاصة بالفرنسيين، وبالقدر الذي نكون رؤية للكون والاشياء نتشاركها مع الفرنسيين، فاننا نصبح فرنسيين. والحال، أن المفهوم العلمي لمعنى الهوية يقول بأن الهوية هي بناء دائم من عمليات الاكتساب التي يمارسها الفرد على مدى سنين عمره.
وفي تهافت منطق دعاة تصنيف الاردنيين وتبويب هوياتهم تختبئ إشكالية كبرى تتعلق بتعريفهم للدولة، وبموقعهم وموقع من يتخيلونهم نقيضا لهم في هذه الدولة. فنموذج الدولة الذي يتخيله هؤلاء هو نموذج الدولة كما ساد في المراحل الاولى من التاريخ الانساني، وكما ساد في القرون الوسطى ولا يقترب مطلقا من الفهم الحديث والحداثي للدولة وللمجتمع وللهوية. فرصد التاريخ الانساني وقراءته تكشف لنا عن نموذجين للدولة تطورا عبر تاريخ البشرية الطويل. ولعل أفضل من رصد الشكل الاول للدولة، كان المفكر والفيلسوف العربي إبن خلدون.
فتحليل ابن خلدون لقوانين تشكل الدول والممالك كما رصدها بحكم تجربة ولادته وعيشه في العالم العربي، يضع مفهوم العصبية في صلب آليات تشكل الدول والممالك. فالدولة تتشكل بفعل تجاور الصحراء الجدباء والمدينة المزدهرة حيث يجبر شح الموارد وتوزعها على مساحات الصحراء الشاسعة، كما تجبر ظروف المناخ القاسية سكان الصحراء على تشكيل جماعات تتسم بالتضامن "العصبية" فيما بينها، وحيث تكون قرابة الدم هي أساس هذه العصبية التي تربط الاف الاشخاص ببعضهم ليشكلوا مجموعات، وسلالات وقبائل قوية تتسم بالبأس وتملك قوة السيف. من امتلك العصبية، امتلك السيف، فيمكنه حينها أن يقيم الملك في المدينة بقوة السيف التي ستقوم باخضاع الرعايا من سكان المدينة. هكذا كانت دولة بني أمية، كما دولة العباسيين والحمدانيين.
وأما النموذج الحديث في تشكل الدولة، فهو يتجاوز النموذج الخلدوني. فالدولة كما رصدها ويرصدها علماء الاجتماع والانثروبولوجيا باتت تتشكل في المجتمعات الحديثة بفعل تعقد السوق، وتعقد تقسيم الاعمال والتخصصات بين السكان بحيث بات كل فرد في الجماعة يرتبط ببقية أعضاء الجماعة بفعل حاجته لمنتجاتهم وخدماتهم التي لم يعد من الممكن لحياته ان تستقيم بدونها وبدونهم. انقسام الجسم الاجتماعي الى شرائح من المحامين والاطباء والزراع والصناع والحرفيين، والسياسيين، ورجال الامن والاكاديميا، يجعل من المستحيل على الفرد أن يعيش وحيدا ويتصرف وحيدا. لان الجميع بحاجة للجميع في الاقتصاد وفي الخدمات وفي الامن وفي الثقافة، فإن الدولة تنشأ بفعل التوافقات وعلاقات السلطة بكافة أشكالها داخل المجتمع ولتنشأ العلاقات التعاقدية المعمممة الكفيلة بالحفاظ على تكافل المجتمع.
المفهوم التعاقدي للمجتمع الحديث يعني أن الجميع يرتبط بالجميع باعتبارهم أفرادا، وحيث الفرد يرتبط مع الفرد بعلاقة تعاقدية، كما يرتبط الفرد مع الدولة باعتباره فردا، كما تتعرف الدولة على رعاياها ومواطنينها باعتبارهم أفرادا. المجتمع الحديث هو شبكة هائلة من العلاقات التعاقدية الفردية، فالضريبة تقرر وتدفع على اساس فردي، ومقابل الضريبة التي يدفعها الفرد تلتزم الدولة تعاقديا بتقديم الحماية والامن له باعتباره فردا. وأجرة الباص لقاء خدمة التوصيل تقرر على اساس فردي يلتزم سائق الباص في مقابلها بتقديم خدمة للشخص باعتباره فردا. العلاقات التعاقدية وليس عصبيات الدم والطائفة هي التي تنتج الدولة الحديثة وتعيد انتاج الاسمنت الذي يربط كل مكوناتها ببعضهم البعض.
وفي الدولة الحديثة يختفي مفهوم العصبية وقوة السيف وعصبية السلالة والعشيرة ليحل مكانه عصبية من نمط جديد، إن كان لا بد من استخدام مفهوم العصبية. ففي الدولة الحديثة واالمجتمع الذي يقيم تماسك اعضائه على حاجة كل منهم للاخر بفعل اختلاف المهن والتخصصات، تصبح رابطة التشارك في الاقليم أو الارض بدلا من رابطة الدم هي أساس العصبية. فالتشارك في الارض والتشارك في الانتماء اليها من خلال الولادة على ترابها، او من خلال الاقامة لسنين طويله عليها هو أساس الانتماء للجماعة وللدولة، وهو أساس التساوي في الحقوق والواجبات. الحديث هنا هو بالتاكيد عن رابطة المواطنة التي حلت مكان رابطة الدم، باعتبارها مصدرا لتعريف مجموع الحقوق والواجبات التي تحددها الجماعة لكل فرد من أعضائها.
في مقابل تاكسونوميا العصبيات القرابية والدينية والطائفية تفتق العقل الانساني على تاكسونوميا حداثية يضع مفهوم المواطنة في القلب منه. ففي التصنيفات الحداثية تعرف الدولة والمجتمع من انتسبوا لاقليمها الجغرافي وترابها الوطني إما من خلال الولادة على، وإما بالاقامة لعدد محدد من السنوات فوقه باعتبارهم مواطنين، فيصبحون كلهم فئة واحدة. اي فئة مواطنين، ولا فئات ولا تصنيفات للمواطنين أيا كان نوعها. ففي المواطنة وحقوقها لا تراتبية ولا هرمية ولا فوقية ولا دونية. الجميع متساوون بالمعنى الحقوقي الذي يتعلق بالحريات السياسية وبالحقوق في الوصول للموارد وبالتمتع بحماية الدولة والمجتمع، وأما التمايزات والتصنيفات لافراد المجتمع فهي لا تتعلق مطلقا بالبناء الحقوقي وانما تتعلق بالمكانات الطبقية أو المهنية أو المالية. في المجتمع الحديث كل سكان الدولة متساوون في البناء الحقوقي ولكنهم يتباينون في العمل والمهنة ومنطقة السكن، واما البناء الحقوقي أي شبكة الحقوق في الامن والحماية وحرية التعبير وحق الوصول للموارد والمناصب فهي كلها متساوية، وهي أقله في الدستور تسعى لان تساوي بين المواطنين.
أمام نموذجي الدولة والمجتمع اللذين تطورا عبر التاريخ، يصر من أطلق عبارة تصنيف الاردنيين بين مؤسس ومجنس، وإن بغير أدراك على العيش في نموذج الدولة الخلدوني، وحيث العصبية هي الدولة وحيث لا تعيش الدولة إلا بفعل وجود عصبية قبلية أو سلالية لتقول أنا الدولة، والدولة أنا. وفي نموذج الدولة هذه لا يتم الاستناد والالتفات إلى عوامل الغنى والتطور في بناء الدولة والمجتمع في الاردن، وحيث بلغ تعقيد الاقتصاد والاجتماع حدا يجعل كل الاردنيين بحاجة لكل الاردنيين. كما لا يلتفت هؤلاء إلى أن الدولة الحديثة بات ينتجها رجل الاقتصاد والمال والعلم ورجل الشعر والموسيقى ومهندس التقنيات، وليس مجموعة من الرجال المنضوين في عصبية الدم أو الطائفة.
ولأن الدستور الاردني، ينتمي لدساتير الدول الحديثة وحيث يعرف الدستور "المواطنية" ليس من خلال مخاطبة رابطة الدم والعشيرة لديهم، بل من خلال رابطة الانتماء للارض أو الاقليم أي الأردن، فوفق الدستور فإن كل من حمل صفة الاردني أي كل من انتمى للارض الاردنية هو مواطن وهو متساو بالكامل مع كل الاخرين الذي يتشابهون معه، ويتماثلون معه في الانتماء للارض. والحال، فإن من يضع الاردنيين في تصنيفات وفي تايبلوجيات، ومن يمارس بوعي أو بغباء الترويج لعلم التاكسونوميا في تصنيف الاردنيين وفي تصنيف هوياتهم، فهو يمارس خرقا وانتهاكا للدستور الاردني نصا وروحا.
قبل أسابيع شاهد كثير من الاردنيين مقطع فيديو لحفل في إحدى اعرق الجامعات الاسكوتلندية تم فيه تنصيب أكاديمي فلسطيني بارع في موقع رئيس الجامعة العريقة. صحيح أن كثيرا منا شاهد الفيديو ليفرح بعدها باعتبار أن شخصا عربيا كان من الذكاء والكفاءة بحيث تمكن من الوصول لموقع رئيس جامعة بريطانية عريقة وسط منافسة كبيرة على الموقع، وأما الجانب الاخر الذي لم نلتفت له كثيرا، فهو يتعلق بقبح عنصريتنا وعشائريتنا وطائفيتنا . ففي المجتمع البريطاني تمتع الاكاديمي الفلسطيني بكامل حقوق المواطنين البريطانيين ليتنافس معهم على موقع رئيس الجامعة، وليحصل على أصوات البريطانيين اللذي فضلوا مواطنا من اصول فلسطينية على كثير من البريطانيين من ذوي العيون الزرقاء. ولم ننتبه لعنصريتنا حينما نجح شخص اسمها باراك اوباما من ذوي البشرة السمراء، والذي يحمل اسما غير امريكي أو انجلوساكسوني ليصبح رئيسا للولايات المتحدة لان اربعمئة مليون امريكي كانوا يرون فيها مواطنا متساويا معهم في الحقوق والواجباب واختار على الاقل نصفهم أن يفضلوه على مرشح اخر يحمل نفس الجينات وملامح البشرة التي يملكونها.