السلام المنشئ للذاكرة والنسيان

ابراهيم غرايبة

 
"ما كان، لا يمكن بعد اليوم ألا يكون قد كان: بعد اليوم هذا الواقع السري والغامض بعمق بأنه كان، هو زاده إلى الأبد" (فلاديمير يانكفليتش).
كان يبدو لي حتى وقت قريب مضى، أن الأشخاض الذين عرفهم أبي صالحون ورائعون. فعندما كان يتذكر ويروي القصص، أو يجيب عن أسئلتنا عن أشخاص ماتوا ولم نعرفهم، كان يروي مآثرهم ويصفهم دائما بالعطف والكرم، ويقدم تقديرا إيجابيا للناس. وحملت، وما أزال أحمل المشاعر نفسها لأشخاص كثيرين لم أعرف معظمهم. وحتى الذين أدركتهم فترة من الزمن قبل أن يتوفوا، غيّر أبي فكرتي عنهم بما كان يرويه من قصص جميلة عنهم، وتقديره الإيجابي لهم!
اليوم، وأنا أشغل نفسي بالذاكرة والنسيان والتسامح كمسائل تكوينية في الوجود والفكر والتاريخ والعلم؛ وفي ملاحظتي وإعادة التفكير فيما أسمعه من ذكريات يرويها الناس والجلساء والأصدقاء، أجد أنه تذكر ونسيان يعبر عن المتذكّر وحالته النفسية والاجتماعية، وما أمكنه أن يرتقي بنفسه ومشاعره وأفكاره.
لقد كان أبي في حالة سلام وغفران، جعلته ينشئ ذاكرة للحياة، وحكما على الناس، مستمدين مما أحل في نفسه من سلام وتسامح، وما درب نفسه وشكلها على أساسهما. لم يكن الناس كما يقدمهم لنا أبي في ذكرياته (وأنا أعرف وسمعت قصصا تختلف عما يتذكره). ولكنه يتذكرهم كما يحب أن يكونوا عليه وما يرجوه لهم؛ كانوا في ذكرياته كما يشعر هو، ويرى نفسه والحياة والعالم.
لم يكن أبي عالما أو فيلسوفا، ولم يقرأ بالتأكيد لبول ريكور "الذاكرة، التاريخ، النسيان"، وهناك الغفران في خاتمة كتابه وإن لم يضعه في العنوان؛ أو كتابه ذا المجلدات الثلاثة "الزمان والسرد". وربما لم يكن يقصد أبي تماما هذا المنهج التذكري، ولكنه كان يتذكر بما يفيض به من سلام وتسامح مع نفسه والعالم!
أذكر أننا تحدثنا معه عن أحد "الشيوخ" من أهل الجبة والعمائم؛ والذين كانوا يطوفون القرى والبلدات يعظون في المساجد ويتلون القرآن ويحيون "الموالد". كان أبي يظهر احتراما كبيرا لهم، ويراهم علماء صالحين. وبينما كنا نصفهم بالجهل والتسول، يبتسم أبي موافقا على أنهم كانوا يتلقون المال والضيافة من الناس، ويقول لعلهم يريدون إهانة أنفسهم لئلا يصيبهم الغرور! نضحك ونشعر أننا انتصرنا، وأن أبي يوافقنا الرأي!
اليوم، وأنا أفكر في ثقافة التنمية والمجتمعات المستقلة، أجد أن ظاهرة "الدعاة المتجولين" تعبر عن قدرة المجتمعات على تنظيم شأنها الديني والروحي مستقلة عن الحكومة، وأن هؤلاء الدعاة لم يكونوا متسولين، بل كانوا يؤدون خدمة تعليمية ودعوية وروحية، وكان الناس يقدمون لهم المال والضيافة متطوعين ومتحمسين لذلك. وكانت المجتمعات في ذلك تعبر عن قدرة على إدارة مواردها الذاتية، وتحقيق فائض تنفق به على تطلعاتها الروحية، وبحثها عن المعنى والجدوى اللذين وجدت بعضهما في تدين شعبي محمّل بالتاريخ والذكريات العميقة والأساطير الخالدة.
وهؤلاء الذين يروون ذكريات محددة ويكررونها مثل الصلاة الإبراهيمية، لم تسعفهم دراساتهم الجامعية ومشاركاتهم العامة في الارتقاء بأنفسهم، فظلوا يتذكرون على نحو يظهر كم تمتلئ نفوسهم وقلوبهم.. ويمكن أن تلاحظ في ذاكرتهم ما يكتمون، لكنهم يفيضون به؛ من الجلافة والكراهية والحسد والحقد والإعجاب بالذات لدرجة الاستغراق!