حتى إذا ما سلك الخلافة انتثر
حسني عايش
ظلت الدولة العربية الإسلامية الكبيرة متماسكة في عهد الراشدين، ثم في عهد الأمويين، إلى أن نجحت الحركة العباسية في إسقاط الدولة الأموية في دمشق وظهور دولة أموية أخرى موازية في الأندلس، ثم تكاثر الانقسام بعد ذلك في الدولة العباسية واستمر إلى حين ظهور الدولة العثمانية التي قسمت البلدان التي سيطرت عليها إلى ولايات تابعة لها.
في اثناء ذلك أي إلى حين ظهور الدولة العثمانية كان لكل منطقة أو مدينة أو حتى قرية أميرها الخاص الذي يرفع علم الخلافة لكنه لا يأتمر بأمرها.
لقد علمونا في المدرسة ثم علمنا فيها أن دولة الخلافة ظلت موحدة طيلة التاريخ، وإن انتقلت من العباسيين إلى الأتراك العثمانيين، فلم يذكروا ولم نذكر أنها لم تكن كذلك. ولم يعرضوا أو يذكروا لنا ذلك ولم نعرض أو نذكر لهم أي لطلبتنا تفاصيله.
لقد تجلى هذا التشرذم في القرن العاشر الميلادي، أي في القرن الرابع الهجري حيث تنافس الأمراء في كل شيء، وبخاصة باستضافة الأدباء والعلماء. لكن الوضع السياسي كان مشرذماً كما ذكرت. وكدليل عليه أنقل لكم مثالاً واحداً عن أحد الأدباء العلماء في اللغة والمنطق وكيف تم استيزاره في إمارات شتى وهو الوزير أبو القاسم الحسين بن علي المغربي ( 370-418هـ) الذي كان أبوه في خدمة الفاطميين.
“ كان أبو القاسم المغربي يتقلد الوزارة أنّى كان وحيثما حلّ، وكأن الوزارة كانت تسعى إليه دون أن يسعى إليها”، فقد قال يوماً لمؤدبه علي بن منصور: “ما نرضى بالخمول الذي نحن فيه”؟ قال له: “وأي خمول تقصد؟ تأخذون من مولانا – خلد الله ملكه– في كل سنة ستة آلاف دينار، وأبوك من شيوخ الدولة ( الفاطمية) وهو معظم مكرم فقال: أريد أن تُصار إلى أبوابنا الكتائب والمواكب والمقالب، ولا أرضى بأن يجري علينا كالولدان والنسوان”.
“ من هذا الخبر نستطيع ان نفسر كيف تعددت الإمارات في عهد أبي القاسم، فقد وزر للأمير قرواش بن بدر أمير الموصل وكتب له، ووزر لأمير بني عقيل؛ ووزر لابن مروان صاحب ديار بكر؛ ووزر للقادر العباسي؛ كما استوزره مشرف الدولة البويهي ببغداد بعض السنة؛ ووزر للأمير ميار فيارقين أحمد بن مروان الكردي؛ ووزر لصاحب الموصل نصر الدولة الذي خُوّف عاقبة مكره فسقاه شربة سمّ كانت آخر زاده.
وهكذا ترون كم مرة تنقل الوزير المغربي بين الإمارات الإسلامية في القرن الرابع الهجري. ذلك القرن الذي شهد إلى جانب الازدهار العلمي والثقافي، حرباً ضروساً في العقيدة وعلم الكلام، فكان أصحاب مذهب السنة القدماء يحاربون الشيعة والشيعة تحارب السنة، ولذلك ظلّت الحرب قائمة بين الأمراء والحكام في مصر والشام وبغداد”.
“ وإذا كان الحاكم العبيدي (الفاطمي) قد قتل أباه وعمه واخويه، والفاطميون في ذلك الوقت دعاة للمذهب الشيعي وآل البيت، فقد كان الوزير المغربي شيعياً داهية، ومن ثم فإن هروبه من مصر إبان ذلك الحادث الأليم واستجارته بصاحب الرملة الحسن بن دغف بن الجراح الطائي، ثم مبايعته لأمير مكة ودعوته له، ثم هروبه بعد ذلك في الاقطار الاسلامية بين من يعتنقون المذهب الشيعي او السني أو ما خلاهما بصور مدى دهائه”. ومدى الإمارات الواسع.
ولأن الخلافة المركزية لم تكن “ تمون” على شيء فقد وصفها شاعر معاصر بالتالي:
وحتى إذا ما سلك الخلافة انتثر: وذهب منها العين والاثر.
صار في كل بقعة مليك: وصاح فوق كل غصن ديك.
المصدر: المنخل مختصر اصلاح المنطق للوزير ابي القاسم الحسين بن علي المغربي – حققه وعلق عليه وصنع فهارسه الدكتور جمال طلبة – دار الكتب العلمية ، بيروت ، لبنان: 1415 هـ – 1994م.