بعيدا عن مسببات التذمر وعدم الرضا

مهنا نافع

إن التحول بالطابع المعيشي الذي شهده المواطن من الجيلين السابقين للجيل الحالي على قريته وهي تتغير لتصبح بمثابة القرية الكبيرة ومن ثم إلى المدينة ذات الكثافة السكانية المرتفعة والمساحة الشاسعة خلال مدة وجيزة، لم يعط له الفرصة الكافية للتدرج والتأقلم مع هذا الواقع الجديد، وبالمقابل فرض هذا الواقع الكثير من التحديات على إداراة المدن المتعاقبة وخاصة بعد الضم إليها المزيد من المناطق القريبة من محيطها، فبالتالي فرض هذا النمط الجديد على المواطنين بشكل عام تكاليف مرتفعة نتيجة هذا التحول الدراماتيكي، فأصبحت تكاليف المعيشة في المدن الكبرى مكلفة من ناحية غلاء الإيجارات للمنازل وارتفاع تكاليف المواصلات ناهيك عن بعد المسافات بين المساكن وغيرها مثل أماكن فرص العمل والأسواق والمدارس والجامعات.

 

كل ما سبق ذكره إضافة إلى مجموعة كبيرة مما كان يطلق عليهم بالكماليات والذي تم تحولهم تباعا إلى جزء هام من ضروريات المعيشة التي لا يمكن الاستغناء عنها مثل جهاز الخليوي والمركبات الخاصة وغير ذلك من حاجيات، إما تم إقناعنا بضرورتها أو ربما هي بالفعل كذلك، كله كان له الأثر الواضح للزيادة من الأعباء التي فرضتها تعقيدات هذا النمط المعيشي في المدينة على أرباب الأسر.

 

وبعيدا عن ارتفاع التكاليف المعيشية في المدن جاء العامل الثاني وهو التغيير الواضح على السلوك اليومي والتفاعل مع المجتمع المحيط، فلم تعد الزيارة بين الجار وما حوله بذلك التكرار فالجميع منهمك بالسعي وراء رزقه ولم نعد نرى ذلك التفاعل الاجتماعي الذي عرفناه في الماضي، فغالبا ما يقتصر أمره على تبادل التحايا لبضع من الثواني وربما السؤال عن الصحة والأهل ان صادف أن هناك فسحة من الوقت لكل من الطرفين.

 

لقد أوجد مجمل ذلك حالة من عدم الرضا والتذمر والاحتقان لدى الكثير من المواطنين وخاصة للذين ذاكرتهم ما زالت حاضرة عن أيام شبابهم حيث البساطة والرخاء والبعيدة كل البعد عن كل هذه التكاليف المرتفعة وغيرها من صعوبات وتعقيدات، وكلما بادر لأي منهم فكرة العودة إلى ذلك النمط بالانتقال لأي مكان خارج المدينة اصطدم توجهه بعائق عدم توفر فرص العمل للأبناء خارج هذه المدن، إضافة *لعدم توفر وسائل المواصلات المنتظمة وبالتكاليف المقبولة بين أماكن القرى المحيطة وأماكن المدن الكبرى أماكن تواجد فرص العمل،* فهل هي المدينة من فرضت علينا كل ذلك وهي تقضم كل يوم ولكل حركة لنا قضمة من رزقنا لتصبح أعتى وسائل الاقتصاد والتدبير لن تجنبنا نهمها؟ 

أم نحن من قصرنا بحق كل محيطها ففرضت كينونتها علينا بقسوة كونها الملاذ الوحيد لمصدر رزقنا؟

 

كان وما زال لدي الكثير من الآمال لتغيير هذا الواقع وإيجاد المزيد من فرص العمل الجيدة في جميع المحافظات بعد طرح مشروع قانون البيئة الاستثمارية الذي أقر قبل مدة، وقد حاولت أن أتفهم سبب الاعتراض عليه أو على بعض بنوده من قبل بعض المستثمرين، المحليين إلا أنني لم أجد على أي محور من محاوره شيئا جوهريا يعيبه، فالبعض يذكر أنه لم تتم مشاركته قبل إقراره والبعض يذكر أنه لن يحسن الواقع الحالي ولكنه يذكر كنوع من الإنصاف أنه لن يؤدي لتراجعه، وهناك من ذكر عدم إعفاء كامل مدخلات الإنتاج من كامل الرسوم الجمركية، وهناك انتقادات لبعض الأرقام التي ذكرت في ثنايا بنوده، لست الآن بصدد الخوض بكل ذلك، ولكن ربما الآمال والطموحات المتوقعة قبل الشروع بوضع بنوده كانت أكبر مما تم إقراره، ولكني أقترح أن نخرج من مفهوم الاستقرار بالقوانين والتشريعات التي يظن البعض ويردد دائما أنها المفتاح الأول لقدوم الاستثمار إلى مفهوم جديد وهو التحديث والتطوير المستمر والمتواصل لها، تماما كأقوى أنظمة التشغيل لأجهزة الحاسوب الشخصي التي فور صدورها والبدء باستحواذها من قبل المستهلك تبدأ المعرفة الحقيقية من خلال التجربة فهم الثغرات وأماكن الضعف بها لتتم على الفور التعديلات والتحسينات عليها دون أي حرج، فالهدف المراد تحقيقه هو الوصول للشيء الأفضل والأمثل ودون أي من الشوائب، وأما عن الشيء الذي يثير اهتمامي الآن بهذا القانون هو الإجابة على سؤال واحد وهو هل سيحقق هذا القانون تأمين فرص العمل الجيدة لشبابنا في المحافظات أم لا؟

 

فلو وفقنا ونجحنا حقا بذلك سيشجع الغالبية من سكان المحافظات على البقاء بقراهم حيث التكاليف المعيشية المعتدلة، وان لم يكن هذا الاتجاه بالأمر الملحوظ على المدى القريب الا انه سيعمل على الهدف الأهم بكل هذا الطرح الذي أقدمه وهو البقاء بالقرب من أراضيهم الزراعية واستثمارها بالشكل الصحيح وبنفس الوقت الحصول على فرص عمل مجزية في المنشآت الاستثمارية حولهم، ومن والطبيعي تحسن الأوضاع العامة للأفضل وحدوث نقلة نوعية ان ترافق ذلك بتوفر المزيد من الدعم لمجالس المحافظات (اللامركزية) إضافة للعمل بجد لوضع الخارطة الصحيحة لتوزيع تلك الاستثمارات بكل المحافظات التي حباها الله بتنوع تضاريسي،كل ذلك سيكون له الأثر الواضح على التنوع بمجال الاستثمار، ولا بد من الاستمرار بإعطاء المستثمر سواء المحلي او الاجنبي المزيد والمزيد من الحوافز المجدية طالما استمر بتأمين المزيد من فرص العمل، ليتوج كل ذلك بالتوسع والتقدم بمجال التنمية المستدامة التي ستحسن من الأوضاع الاقتصادية وبنفس الوقت ستحافظ على الموارد الزراعية والطبيعية بعيدا عن المدن ذات التكاليف المعيشية المرتفعة والصعوبات الحياتية التي باتت معروفة للجميع سواء من ارتفاع قيمة إيجارات المساكن وزيادة تكلفة المواصلات نتيجة الازدحامات المرورية وبعد المسافات بين الخدمات المختلفة، عدا عن أثر التلوث البيئي والإزعاج والضيق بمساحات السكن في البنايات المتلاصقة والقلة من المتنزهات وغيره من تعقيدات ومنغصات معيشية هي الآن سمة متشابهة رغم الاختلاف بشدتها لكل المدن الكبرى حول جميع أنحاء العالم والتي غالبا ما تسبب لقاطنيها وخاصة كبار السن الكثير من التذمر وعدم الرضا.