سيرتنا مع قضيتنا
أ. د. م. منذر حدادين
وأعني بقضيتنا اغتصابَ فلسطين، منذ أن تأسست دولتنا باسم إمارة الشرق العربي (1921- 1926) وتحول اسمها إلى أمارة شرق الأردن (1926-1946) ثم خليفتها المملكة الأردنية الهاشمية منذ العام 1946، وبالذات سيرة هذه البلاد وأهلها وقادتها مع قضية فلسطين. فقد كانت باكورة تضحيات القادة أسر ملك العرب ومفجر نهضتهم الحسين بن علي طيب الله ثراه، ونفيه إلى قبرص لأنه رفض الاعتراف للصهاينة بحق في فلسطين ولم يوافق على وعد بلفور. واكتسب شرف الرقاد في الحرم القدسي، أولى القبلتين.
كتب الشيخ عبدالله القلقيلي صاحب صحيفة «الصراط المستقيم» اليومية في يافا وهو شيخ أزهري أصبح في ما بعد مفتي المملكة الأردنية الهاشمية، كتب عن رحلته إلى عمان خلال الربع الأخير من سنة 1933 أقتطف منها »......وأخبره رئيس بلديتها طاهر الجقّة بأن الحكومة لا تعارض البلدية في شيء بل تسهل لها عمل كل شيء. وأن البلدية قامت بمشروع إضاءة عمان بالكهرباء من مالها، ولم تلجأ إلى مشروع «روتنبرغ» لتوليد الطاقة الكهربائية من مياه نهري اليرموك والأردن بامتياز من سلطة الانتداب لشخص يهودي، ولم تجبرها الحكومة على ذلك، لأن البلدية رأت في «روتنبرغ» مشروعاً يشكل خطراً على العرب وحصناً للصهيونية يجبي المال من العرب ليعيش منه الصهيونيون.'
وما لم يرد على لسان المهتمين أن أمير أمارة الشرق العربي عبدالله بن الحسين طيب الله ثراه رفض أن يوافق على الامتياز الذي منحته وزارة المستعمرات البريطانية للمهندس اليهودي بنحاس روتنبرغ، وقال الأمير ان الموافقة عليه ليست من صلاحياته وإنما من صلاحيات الشعب. وعمل المندوب السامي في القدس هيربرت صموئيل بالضغط على الحكومة الأردنية ليحصل على موافقة مجلس النظار أيام رئيسه حسن خالد أبو الهدى على الامتياز المذكور. كما لم يرد على لسانهم أن أمير البلاد ألمح إلى المرحوم واصف باشا البشارات ولشخصية من عائلة بحّوث من حيفا بالتنافس مع روتنبيرغ للحصول على الامتياز دون نجاح.
وتحدث القلقيلي عن عناية الأمير عبدالله بفلسطين واهتمامه بما يجري فيها من حوادث. ويذكر صاحب الرحلة أيضاً أن سموه جاهد في الكتابة إلى الحكومة البريطانية داعياً إلى إنصاف العرب، في الوقت الذي أضرب فيه الناس في عمان يوم وصلها القلقيلي وساروا في مظاهرات احتجاجية على ما يحدث في فلسطين والهجرة اليهودية إليها. ويقول القلقيلي إن كثيراً من الناس كان «يرقب كلمة من زعيم مسؤول أو إشارة من مُطاع ليزحف إلى فلسطين»، ونوّه هنا بعقلانية حكومة شرقي الأردن والحكمة التي جنّبت هذا البلد ما هو أدهى مما وقع في فلسطين، ووصف الأسبوع الذي قضاه في عاصمة شرقي الأردن بأنه كان «أسبوع فلسطين».
وتحدث كثير من المؤرخين عن اجتماع القيادات العائلية والقبلية الأردنية دعماً لفلسطين ومؤازرة لأهلها لما كانت تتعرض له فلسطين من هجرة اليهود إليها بإشراف وإدارة الانتداب البريطاني، وعن إقدام المناضلين الأردنيين على القتال في أرضها لحمايتها.
ولم يترك المستعمرون ولا الأعداء فرصة لإضعاف الدعم الرسمي والدعم الشعبي الأردني لاستقلال فلسطين وحماية أهلها. إلا أنهم خابوا حيناً ونجحوا أحياناً. نجحوا في بذر بذور الشقاق بين القيادة الأردنية والقيادة الفلسطينية التي تمثلت في المفتي ورهطه القيادي، وانضم كثيرون منهم إلى القيادة الأردنية لاحقاً (كامل عريقات، قاسم الريماوي،. واستمر الدعم الشعبي الأردني على شكل إضرابات ومظاهرات تجوب وسط البلد ما زلت أذكرها لاسيما تلك التي اندلعت بعد قرار التقسيم في 30 تشرين الثاني 1947. يومها ارتأى مدرسنا في الصف الثاني الابتدائي أن يترك درس المنهاج ويشرح لنا أسباب الإضرابات ومعنى الهتافات وأنها كانت بسبب ما كان قد حل بفلسطين من هجرة اليهود بدعم من المستعمرين الإنجليز. وأذكر أن هتافاً ملأ أجواء المظاهرة يومها يقول:
سكّر يا قليل الدين/ راحت منا فلسطين!
ثم أذكر ما كان يقال عن الجيش العربي وصداماته بفلسطين قبل تأسيس دولة إسرائيل، انتصاراً لأهلها هناك، وأذكر استشهاد المتطوعين الأردنيين في ساحات القتال بفلسطين ومن ضمنهم إبن حارتنا الشهيد المرحوم الشاب بهجت يعقوب قعوار. وربينا في بيوتنا بعمان وفي مدارسنا أن فلسطين أرضنا وأن أهلها أهلنا، ولم نشعر إلا بأننا نؤدي واجب العناية بهم وحماية ما أنقذه الجيش العربي والجيش العراقي من أراضي فلسطين، فكانت وحدة الضفتين وخالفها العرب الأعضاء يومها في جامعة الدول العربية حتى أوشكوا على مقاطعة المملكة الأردنية الهاشمية، بل إن مجلس الجامعة أنكر على الأردن في ديسمبر عام 1953 أن يكون عضواً في اللجنة العربية التي شكلها المجلس برئاسة مصر وعضوية سوريا ولبنان من أجل التفاوض مع المبعوث الأميركي إيريك جونستون لاقتسام مياه حوض نهر الأردن. واضطرت الجامعة إلى ضم الأردن للجنة لاحقاً (نيسان 1954) بسبب جغرافية الحوض وروافد النهر والمساحات الزراعية التي ستستفيد من مياهه.
ويذكر الجيل المتقدم في السن اليوم الصدامات الإذاعية أثناء الحرب الباردة العربية بين 1957-1967 والاصطفافات المتضادة عربياً، ونتائج التشرذم العربي في حرب 1967 والتضاد بين الدولة الأردنية وفصائل المقاومة الفلسطينية. وكان بيت القصيد لأعداء الأمة شق صفوفها وتحريض بعضها ضد البعض الآخر ونجحوا في ذلك إلى حد بعيد.
وفي حمى النشاط الأميركي لعقد مؤتمر للسلام في الشرق الأوسط قبل الملك الهاشمي في عام 1991 أن يشترك الأردن بنصف وفد حتى يفتح المجال في النصف الآخر للأشقاء الفلسطينيين، وتشكل وفد أردني فلسطيني مشترك للبحث عن السلام. ولست بصدد ما كان من جفاء بين شقي الوفد المشترك، لكني بصدد الإشارة إلى ابتعادهما عن بعضهما، بل وافتراقهما في الإقامة بواشنطن. وكان الشق الفاسطيني من الوفد المشترك يأتمر بأوامر منظمة التحرير الفلسطينية والشق الأردني يلتزم بتوجيهات الدولة الأردنية. وأذكر جيداً حديثي مع عضو الوفد الأردني الدكتور وليد أحمد سامح الخالدي في ردهة فندق الويلارد بواشنطن عندما اتفق العرب في دمشق على ما اقترحه وزير الخارجية السوري «أن يشيل كل طرف عربي شوكه بيده»، أي أن يستقل كل وفد عربي في تفاوضه مع إسرائيل ليصل إلى السلام كل بمفرده.
قلت للدكتور الخالدي: «لكن في ذلك خطر كبير على فلسطين والفلسطينيين، إذ سيتركون بتصميم من إسرائيل في العراء وبرده قارس!»
وأذكر أن عضواً مهماً من الوفد الإسرائيلي حاول أن يدعي لي في اذار 1992 أن إسرائيل هي من خلق «حماس» لضرورة إيجاد منافس لياسر عرفات! لكن طاش سهمه وخاب فأله. إذ يستحيل أن تكون فريته صحيحة.
وعلى الرغم من وصول الأردن مع إسرائيل إلى جدول أعمال المفاوضات المشترك، فقد تثاقلت أرجلنا عن إحراز أي تقدم بعد ذلك إنتظاراً لإنجاز مماثل يحرزه الشق الفلسطيني من الوفد المشترك، وطال الانتظار إلى أن وقعت القيادة الفلسطينية (وخارج نطاق عملية السلام) في الفخ المنصوب، وقبلت أن تذهب خلسة إلى أوسلو وقبلت بنتائج خلوتها مع إسرائيل. واعترفت بإسرائيل دون أن تعترف هذه بالدولة الفلسطينية التي أعلنتها القيادة الفلسطينية في الجزائر قبل أوسلو بخمس سنين. وكان لذاك «الإنجاز'تأثيرعلى الوفد الأردني الفلسطيني (المشترك) يحتاج إلى مجال لا متسع هنا له. لكني أيضاً أتذكر بسبب أوسلو صداماً لي مع رئيس مجموعة عمل المياه الأميركي حين فاجأني بإصراره إثر إعلان اتفاق أوسلو، إصراره يوم 7/ 9/ 1993،على أن الأردن سيوقع مع الفلسطينيين وإسرائيل اتفاق أوسلو يوم الأثنين 12/ 9/ 1993. أجبته أن ذلك ربما ما تريده بلده أميركا، لكن أربط الحزام، الأردن لن يوقع على اتفاق أوسلو. ولم تهدأ العلاقات بيننا منذئذ، وقد كتب فيّ التقارير ما ضاقت به ملفات الآعداء.
وبالفعل، أصدر الملك الحسين تعليماته يوم الجمعة 9/9/ 1993 إلى رئيس الوفد الأردني المرحوم الدكتور فايز الطراونة أن لا يبقى من الوفد الأردني في واشنطن إلا من له عمل رسمي هناك، فغادرنا واشنطن كلنا وما بقي إلا السفير الدكتور فايز أحمدالطراونة ورئيس المركز الإعلامي الأردني الدكتور مروان جميل المعشر.
وفي ذاكرتي التي ملأتها قضية فلسطين منذ نعومة أظفاري، لا أذكر أن افتراقاً بين الطرفين، الأردني والفلسطيني، كان مفيداً إلا لإسرائيل وداعميها. وعلينا أن نعي ذلك ونتأكد أن التحريض لأي منا ضد الآخر يقصد به شق وحدتنا التي لا يستطيع العدو أن يتعايش معها. فنحن شعبان متحابان ومتحدان بالضرورة من أمة واحدة قدمت للحضارة وسعادة الناس الشيء الكثير، ولسنا كما يصفنا الصهاينة: «شعب واحد». إذ قال أحدهم في برنامج تلفزيوني علانية: هم شعب واحد، فلماذا يريدون دولتين؟!!!
حفظ الله بلادنا من كيد الطامعين، ومكننا من أن نرتقي إلى مستوى النضال ضد الأعداء الذي قدمته غزة الأبية وأبناؤها، والدعاء الجلي للقيادة الأردنية الواعية الراشدة، أن يحفظها الله ويزيدها عزماً وصبرا، والله مع الصابرين، «والله غالبٌ على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون».