الأمير الحسن يكتب: رمضان ومشروع النهضة
الأمير الحسن بن طلال
يهل علينا شهر رمضان المبارك، شهر الرحمات والبركات والطاعات، وفي ظل نسائمه الروحانية، يجب أن تحفزنا الظروف القاسية التي تمر بها أمتنا العربية والإسلامية والعالم أجمع على التفكُّر في أولوياتنا كأمة تحمل رسالة سامية،تبلغها للناس، وتنشر قيم الخير والفضيلة والمحبة بين أمم الأرض وشعوبها جميعًا، ليكون الشهر الفضيل فترة تدبر ومراجعة نهدف من خلالها إلى تنظيم بيتنا الداخلي وتصويب حالات القصور العديدة في عطائنا.
إن أحكام الإسلام وأوامره تتضمن طاقات هائلة، وتفتح أمام الإنسان المجال لاستكتشاف الإمكانات الكامنة في وجوده الفردي وفي نطاقه الاجتماعي والكوني، ومن هذه الأحكام عبادة الصيام التي تمنح الإنسان فرصة لإعادة اكتشاف إرادته الفردية وتوجيهها نحو الغايات الروحية والاجتماعية التي تحقق الخير العام في كل مجالاته وتجلياته. والبحث في العمق الروحي للصيام هو مدخل لاكتشاف حقيقة الإسلام التي غفل عنها كثير من الناس في عصرنا الراهن الذي هيمنت فيه العولمة المادية الغربية ثقافيًا ورقميًا على عقول كثير من أبناء مجتمعاتنا في الجنوب الكوني. والغاية المعلنة من الصيام هي التقوى، والتقوى جماع كل خير على المستويات كلها: الفردية والمجتمعية والكونية.
وإذا كان العمل الأصيل في عبادة الصيام أن يمتنع الإنسان عما اعتاده من أنماط المعيشة اليومية؛ فإن ذلك العمل يعزز قدرتنا على التحرر من العبودية للحاجات، والتحرر من أسر المادة، ولنشعر بما يعانيه أشقاؤنا في غزة والسودان وغيرهما من المجاعة وشظف العيش ونقص الغذاء والدواء بالإضافة إلى تلوث مياه الشرب، وغيرها من ألوان التجويع والقهر والحرمان مع تعسف واضح وإجرام ظاهر. وأمام هذا كله فإن التضامن العاطفي مع أهميته لم يعد كافياً خاصة في ظل هذه السلوكيات العدوانية التى تجاوزت التوجيهات الدينية والأعراف الدولية والأحكام العقلية؛ لذا يجب أن ننتقل إلى العمل الجاد لرفع ما يعانيه أخوتنا من ضيم الطغاة والغزاة والغلاة.
لقد آن الأوان لنتحدث عن آلية تضامن كوني إنساني في وجه الطغيان والنزعة إلى الغزو والاحتلال، وفي وجه الغلاة أيًا كانت مشاربهم، وهدم جدران وخطوط الفصل بين الشرق والغرب وبين الأعراق البشرية والتي صارت أكثر صلابة من خط ماجينو.
إن ما يتعرض له أبناء فلسطين في غزة هاشم، حيث يرقد شيخ الهواشم: هاشم بن عبد مناف، وفي القدس حيث يرقد الشريف حسين بن علي، وفي بقية الأراضي المحتلة، من قتل وتجويع وتخريب، كل هذا الكدر والحرمان الذي نراه على الشاشات ونقرأ ونسمع عنه يجب أن يخرجنا من حالة الشفقة والتعاطف، إلى واقع عملي نمد فيه يد العون للمنكوبين والنازحين والمهمشين، ونمنحهم إلى جانب العون الغذائي، الرعاية الطبية والنفسية اللازمة لتخفف عنهم هول ما عاشوه؛ لأن التئام جروحهم هو بداية العلاج ورأب صدع خط الأزمات، ويستوى في هذا العمل كل من تشابهت ظروفهم، وكل من تأثروا بالأزمات السياسية التي تناقض معاني الإنسانية.
فهل آن لنا أن ندرك اليوم أن ما ينفق على تمويل الترسانة العسكرية من مبالغ مالية باهظة لو أنفق جزء بسيط منه فى العطاء والأعمال الخيرية لعالجت التحديات التي تواجه الإنسان على الضفة المقابلة من البحر الأحمر.
إذًا، الصوم هو فقر اختياري يستشعر فيه الناس معنى العدالة الاجتماعية، فالاختلاف بين الناس في مستوياتهم الاقتصادية قد يفقدهم الشعور بالمساواة ويجعل كثيرًا من الأغنياء يغفلون عن الفقراء ومعاناتهم، في حين يحقق الصيام هذه المساواة من خلال إعادة بناء الوحدة الشعورية وتقليل الفوارق الطبقية بين الناس.
ومما ينبّهنا إليه شهر رمضان هذه العلاقة الوثيقة بين العبادة والعمل، فالعمل هو ثمرة الإيمان وهو طاعة يحبها الله ويثيب عليها الإنسان؛ ومن هذا المنطلق يجب أن يكون الشهر الفضيل حافزًا لزيادة الإنتاج ومضاعفة الإنجازات، ويشهد على ذلك التاريخ الذي يخبرنا أن كثيرًا من الانتصارات والإنجازات حدثت في هذا الشهر الكريم؛ فليس الصيام سلبية ولا نوماً ولا هروباً من العمل والتكاليف، بل هو عبادة روحانية تدفع إلى مزيد من العمل والبذل.
وإذا كان الإسلام ينادي في أهله دائماً بضرورة التقدم من حال إلى حال أفضل منه، في كل مجالات الحياة؛ فإننا يمكن أن نقول: إن رسالة الإسلام تقترن بمفهوم النهضة. ومن منظور الإسلام تبدأ النهضة عندما تولد في الإنسان الإرادة الحرة الباعثة على تغيير واقعه، وهذه الإرادة تتطلب قفزة نوعية تخرجه من حالة شعور الإنسان بقصوره الذاتي إلى حالة أخرى تشعره بكرامته وعقله وقدرته على تجاوز الأنماط الفكرية والثقافية السائدة في محيطه الاجتماعي. وفي هذا السياق تصبح عملية النهوض مشروعًا حضاريًا شاملًا لا يتوقف على مرحلة يشعر فيها المجتمع بالظلم أوالضعف، وإنما تمتد لتكون بمثابة غاية متجددة تشمل مسيرة التاريخ البشري كله. والقيمة الاجتماعية الأساسية التي يعيشها الصائم ويختبرها في كل أحاسيسه وجوارحه هي قيمة التضامن الاجتماعي، والتي أضحت اليوم ضرورة اجتماعية تزداد إلحاحًا في وقتنا الراهن الذي انكشفت فيه هشاشة قيم الرأسمالية النفعية وانحيازه المتواصل لمشاريع الهيمنة.
إن غاية الحياة أن نعمل من خلال النهضة من أجل مستقبل أفضل للأجيال القادمة، ومن هنا نرفض سياسات الإماتة التي تُمارس على أهلنا في غزة، الذين لم ولن يقبلوا بها رغم ما يُمارس عليهم من قتل وتجويع وتدمير لبيوتهم ومساجدهم وكنائسهم ومستشفياتهم وتراثهم الحضاري، وكأني بهم يطبقون الحديث الشريف: «إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليفعل)، ويعلموننا ألا يأس مع الأمل، رغم أن اليأس قد يدخل نفوسنا بسبب الألم. وعلينا أن نتذكر دومًا أن القضية الفلسطينية، هي قضية العرب والمسلمين جميعًا وهي قضية شعب مظلوم يبحث عن حريته واستقلاله منذ ست وسبعين سنة.
يجب أن يحثنا شهر رمضان على فهم الأصول في المعاملات، وأن تحقيق الانتصار يبدأ بالتغلب على النفس، والعمل على ترتيب البيت الداخلي، والسير على طريق الغيرية الفعَّالة التي تقدِّم الصالح العام على المصالح الخاصة الضيّقة، وتسعى لخير العالمين، وأذكِّر هنا بالزكاة التي أصبحت تسهم في جزء كبير من تمويل المنظمة الدولية للاجئين، لا سيما مع انتشار التطبيقات الإلكترونية التي تمكِّن الأفراد من دفع زكاتهم إلكترونيًا الأمر الذي يسهِّل إيصالها إلى المستحقين.
أخيرًا، يذكرنا شهر رمضان بالعلاقة المباشرة مع الخالق، وبعظمة المناشدة والمناجاة(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)، كما يذكرنا بألا ننسى الفضل والإحسان بيننا (وأحسِن كما أحسن الله إليك). أسأل الله الجواد الرحيم أن يحمل شهر الرحمات وقف أنهار الدم الجارية في فلسطين الحبيبة، بارك الله لكم في شهر رمضان وتقبَّل طاعاتكم.