اختراقات مدروسة

مالك العثامنة

 

هناك عقدة خيبة جماعية تتبعها قد تصل إلى حيث شئت من التاريخ العربي قديمه وحديثه، لك أن تختار أي مفصل خيبة تاريخية فكلها سواء وتتراكم، إن شئت تبدأ من صفين والفتنة بين علي ومعاوية، أو قبل ذلك. ولك أن تبدأ أيضا من هزيمة حزيران ٦٧ أو قبل ذلك وبعده مع الأخذ بعين الاعتبار أن كل مفصل خيبة هو تراكمية فوق خيبات سابقة لم تتوقف حتى اليوم.

 

 

هي عقدة خيبة، تتكئ على التاريخ في ذات الجغرافيا الملعونة بهذا التراكم التاريخي المتشابك والمتناقض والمتخم بالدم والأزمات.

 

تلك قناعة تشكلت عندي عبر كل ما قرأت وسمعت وشاهدت في مسيرة مليئة بالتحولات والانعطافات والاستدارات المبنية على مراجعات ذاتية لا تتوقف كي لا أنتهي كحالة إنسانية تفكر.

وتماسك العقل والتفكير الهادئ يصبح عملية شاقة أكثر اليوم في عصر الدفق المعرفي والدفق التضليلي في اختلاط واضح لا يمكن تمييزه إلا بمشقة البحث المعرفي.

فلنطبق ما أقوله عمليا على آخر ما ورد من أنباء اختطفتها فوضى التحليلات والتضليلات:

صباح يوم الثلاثاء، تم الإعلان عبر وسائل الإعلام الأردنية عن عملية إنزال مساعدات واسعة وجديدة على قطاع غزة. الخبر كان مرفقا بفيديوهات وصور غاية في الدقة الفنية لطائرات سلاح الجو الأردني، وبعد قليل يتوسع الخبر لنعرف مشاركة ثلاث طائرات مصرية وإماراتية وفرنسية، مع ثلاث طائرات أردنية.

أثناء ذلك، بين الخبر الأول وتوسعه اللاحق، تثور ثائرة ثورجية الفضاء الافتراضي بين اتهامات الأردن باستعراض مسرحي، إلى تصفية حسابات معارضة لمصر أو الإمارات.

توسع الخبر كان ردا على جماعة تصفية الحسابات، والتواجد الفرنسي تحت مظلة أردنية كان له دلالاته بثقل دبلوماسي أردني أنتجته زيارات الملك المكوكية والمكثفة لتثبيت المطلب الأردني كمطلب دولي موحد: وقف إطلاق النار الفوري وإدخال المساعدات.

طبعا، من المنطقي أن ينسق الأردن مباشرة أو عبر طرف ثالث مع إسرائيل، ومصر وحتى مع حماس والمقاومة نفسها لضمان أمن المجال الجوي، هذه ليست عمليات انتحارية، لكنها بلا شك اختراقات صعبة وشاقة لحاجز الصلف الإسرائيلي المدعوم دوليا بقوة، واختراق هذا الصلف يعني إضعاف الدعم الموجود فعليا وبنته إسرائيل عبر كل سنوات وجودها.

نعود إلى الخبر، الذي توسع أكثر بعد الظهر، لتظهر فيديوهات وصور فائقة الدقة يرى فيها الجميع الملك عبدالله الثاني في الطائرات قبل إقلاعها يساعد في تجهيزها ويشرف على العملية. الطائرات والحمولة لا تحتاج جهد الملك البدني فعليا، لكن الصورة تحتاج حضور الملك لتقديم الرسالة الأثقل، وهي ليست كما يتصور البعض اختراقا للأجواء الإسرائيلية، هنالك تنسيق ضروري بضغط دولي ودبلوماسي، لكن الرسالة هي تفكيك الدعم الأعمى لإسرائيل.

الخبر يتسع، والاختراقات تتسع.

السخرية والتهكم التضليلي لا يتوقفان، من بين ذلك أن الملك يحمل المعونات على أرض مطاراته فقط! والمساعدات كان يجب أن تدخل بريا! هكذا يقرر جنرالات الكبسة الكيبوردية وأركان عمليات الفضاء الافتراضي بساطة الأمور، ويستحضرون طبعا كل خيبات التاريخ كزوادة معرفية.

هناك منهجية "استخبارية" حين أتتبع بعض الحسابات، لتنتهي عند أشخاص تاريخهم مريب، لكنها سواتر الفوضى الترابية التي تخفي كل ذلك.

في الليل، يخرج الفيديو الأخير، بدقة عالية وجهد واضح في هدوء توصيل الرسالة: الملك نفسه فوق غزة على متن إحدى الطائرات، ومما علمته بعد السؤال "ووظيفة الصحفي أن يسأل ويتحرى" أن طاقم مكتب الملك علم بمغامرة الملك قبل نصف ساعة من إقلاع الطائرات. الملك يصر على أن يدفع بمنهجية اختراق الدعم الدولي لإسرائيل إلى أقصى حد ممكن.

في ذات اليوم، كانت الملكة في الدوحة تتحدث في قمة "الويب" وبكلمة مكثفة ومدهشة ربطت بسلاسة بين مكونات الفضاء الافتراضي وعزلة غزة.

كانت الرسالة في تلك اللحظة مكتملة..وهي موجهة لماكينات صناعة القرار الدولي بضغط ممنهج، وما يزال جنرالات الكيبورد يبحثون عن حقول يحرثون فيها خيبة الأسئلة الغلط في الوقت الغلط لأهداف كلها غلط.