وما زال الغذاء غائباً
الاب رفعت بدر
مؤلم حقًا ما نشاهده من مناظر الطوابير البشريّة التي تصطّف لأخذ حصصها من الغذاء اليسير في غزة، وتحديدًا في الجنوب الذي أمّت إليه الألوف المؤلفة من أهل الشمال، وكذلك من بقيوا في الشمال، ولا وصول لأية مساعدات لهم، باحثين عن حلّ لأسئلة الـ«لماذا؟» التي يطرحها الكبار والصغار.
مؤلم جدًا أن يتذكّر أهل غزة بيوتًا لهم تعبوا على إنشائها وهُدمت، وأشغال انتهت، وشوارع تحفّرت من الصواريخ، ومساكن دمّرت، ومدارس أصبحت في خبر كان، وأن يحمل كل منهم صحنًا صغيرًا تهطل به أمطار السماء، كأنها دموع على هذه الأوضاع الوحشيّة الموحشة، قبل أن تنقل فيه بعض الأطعمة القادمة عبر مساعدات العالم.
غزة تحت القصف والدمار منذ أشهر، ولكنها اليوم في مجاعة خانقة، وتدعو إلى الخجل من الأسرة البشريّة التي رأت مشاهد القتل وأشلاء الشهداء في كل مكان، ولم تحرّك ساكنًا، ورأت النزوح البشري القسري نجو الجنوب، ولم تتدخّل، وترى اليوم الصحون الفارغة، ولا تبدي أيّة ردة فعل على أوضاع إنسانيّة انتقلت من الصعب إلى الأصعب. وهنا اقتبس من معالي وزير الخارجية أيمن الصفدي، الذي قال في مداخلته التاريخية في محكمة العدل الدولية: «ان نصف مليون فلسطيني في الدرجة الخامسة من التصنيف المتكامل للأمن الغذائي، أي في اسوأ مراحل المجاعة».
نتخيّل هنا شعبًا بأكمله محرومًا من كلّ أسباب الحياة الرئيسيّة. نقول الرئيسيّة وليست الإضافية أو الكماليات والترف والرحلات والحفلات. نحن نتحدّث عن شؤون رئيسيّة محروم الشعب منها، ولا نجد حلاً قريبًا لتوفرها، مثل الغذاء والماء والوقود والكهرباء... وطبعًا هي تحتاج إلى حلّ سلمي لا يوجد بدونه أي أفق للحل: أي وقف فوري لإطلاق النار، وما سيتبعه من مباحثات عبر الوسطاء لإطلاق الأسرى من الجانبين، وإيصال المساعدات الفوريّة للشعب الجائع مخافة أن تصبح المجاعة كارثيّة، وأن توصل الأدوية إلى كبار السن والمرضى والمصابين. وفي نهاية المطاف، أن يتم البحث عن حلّ للصراع كلّه فيتمتع الشعب الفلسطيني باستقلاله الكامل على ترابه الوطني والقدس الشريف الشرقيّة عاصمة للدولة المستقلة. وهي المبادئ التي تحدّث عنها جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين أمام الرئيس الأمريكي، وأمام الرؤساء الذين التقى بهم في جولاته المكوكيّة من أجل فلسطين.
في السادس والعشرين من شباط يحتفل في كنائس العالم بعيد القديس برفيريوس، أسقف غزة، المعروف عنه الدفاع عن العقيدة ونشر الإيمان المسيحي في الشعوب الوثنيّة التي كانت تسكن غزة، الميناء المزدهر في ذلك الوقت، كنقطة واصلة بين الشرق والغرب. وهو القديس الذي كان يوزّع المعونات على الفقراء والمحتاجين، وبالأخص في عام 395 حينما احتبست السماء ولم يسقط المطر، فصلى برفيريوس فاستجاب الله لصلواته. وهو الذي وزّع الثروة التي جاءه بها تلميذه مرقس على المحتاجين في المدن والقرى والأديرة، كما بعث بمال وافر للرهبان في مصر. أما الغرباء في القدس فكان لهم أبًا حنونًا، ووزّع كلّ أمواله عليهم، ولم يبقِ لنفسه شيئًا، لكي يكون اتكاله على الله كاملاً.
هي ذي غزة، موزعة الخيرات على العالم، تحتاج وهي تحتفل بعيد أسقفها الأول برفيريوس، في ذكرى وفاته عام 420، إلى من يكفكف دمعتها ويضمد جراحها ويطعم أولادها. ولسان حالها تصلي الى رب السماء ضارعة: «عَلَيْكَ يَا رَبُّ تَوَكَّلْتُ. لاَ تَدَعْنِي أَخْزَى مَدَى الدَّهْرِ. بِعَدْلِكَ نَجِّنِي»