الخوف والتأمل بما هما المكون المؤسس للفكر الديني
إبراهيم غرايبة
يفسّر الخوف والتأمل مسارَ الإنسانية والتطور الحضاري والتكنولوجي، ولا بدّ أنّهما أيضاً مفسّر تأسيسي للفكر الديني السائد، فالإنسان أنشأ حول الخوف بما هو البقاء، والتأمل بما هو تحسين البقاء، منظومة الموارد والأعمال والقيم، فلأجل أن يبقى الإنسان حيّاً سعى لأجل تأمين الغذاء والدفء واللباس، وفي ذلك أنشأ العمل والصيد والرعي والأدوات والقيم التنظيمية والاجتماعية والمهارات والمعارف.
إلى أيّ حدٍّ تساهم منظومة الخوف في تكوين الفكر الديني؟ يقول باروخ سبينوزا (رسالة في اللّاهوت والسياسة): "إنّ الوعي الديني، سواء كان متقدماً أو خرافياً، مردّه إلى الخوف، وفي خوف الإنسان من الموت أو لمواجهة الطبيعة وظواهرها تقدّم الكهنة والعرافون ورجال الدين ليساعدوا الناس في تدبير حياتهم، والحصول على الأمن والطمأنينة".
يقول سبينوزا:
"ولمَّا كان الخوف سبب الخرافة، وليس سببها كما يدَّعي البعض فكرة غامضة من الألوهية موجودة في أذهان البشر، فإنّنا نلحَظُ أنّ كلَّ الناس يميلون إليها بطبيعتهم، كما نلحظ أنّها لا بُدَّ أن تكون مُتغيِّرة ومُتقلِّبة إلى أقصى حد، شأنها في ذلك شأن مُعظم أوهام النفس ودوافع الجنون الشديد. ونلحَظُ أخيراً أنَّ الخرافة لا تعتمد إلّا على التمنِّي والحقد والغضب والخداع؛ لأنّها لا تقوم على العقل، بل تقوم على الانفعال وحدَه، وعلى أقوى الانفعالات كلها" .
المعتقدات العقلية والمنطقية بطبيعتها تظلّ خاضعة للمراجعة والتغير والشك ممّا يجعلها دائماً هشة وغير يقينية
وفي التنظيم السياسي والاجتماعي للجماعات الإنسانية (أسر وجماعات عمل وعشائر وقبائل ومدن وقرى وممالك) نشأت حاجة للدوافع الاجتماعية والثقافية لترسيخ المبادئ والقيم التي تحمي الجماعات والأعمال، مثل التعاون والتضامن والسلام والمشاركة، ولكن لم يكن ممكناً على الدوام تشكيل جميع الناس في منظومات ملتزمة عقلياً لأجل تلافي الخطر والخطأ والبحث عن المنفعة والتزام الحقوق والواجبات، فالأهواء والمصالح والتفاوت الإنساني ينشئ أيضاً تحديات كبيرة للقيم الصائبة والعادلة.
والمعتقدات العقلية والمنطقية بطبيعتها تظلّ خاضعة للمراجعة والتغير والشك، ممّا يجعلها دائماً هشة وغير يقينية، كما أنّها تنشئ الإحباط كلما عجزت عن تقديم حلول وأفكار كافية لتلافي الخطر أو بعث الأمل والطمأنينة، وعلى سبيل المثال فإنّ الإنسان برغم كلّ التقدم العلمي والتقني مايزال عاجزاً وحائراً أمام الموت، الذي يشكّل مصدراً للخوف الإنساني الدائم والعميق.
إنّ الموت بما يبعث على الخوف والتفكير الدائم بما بعد الموت، هو المنشئ الرئيسي للحضارة الإنسانية، فقد نشأت المدن حول القبور! ذلك أنّ الإنسان جعل من القبور ساحات مقدّسة يلجأ إليها ويزورها، وصارت ساحات للطقوس والاحتفال والتجارة والتقاضي ثم السكن والتنظيم الاجتماعي والتحضر والتمدن، الموت بما ينشئ الخوف أنشأ المدينة والحضارة والقيم والتشريعات والأفكار السائدة والراسخة، وأنشأ أيضاً قيم الخوف والانضباط في السياسات الاجتماعية والطاعة للحكام والقادة السياسيين والاجتماعيين.
يقول سبينوزا:
"ولَمَّا كان عامَّة الناس أشقياء دائماً، فإنّهم لا يَصِلون أبداً إلى حالة رضاءٍ دائمة، ولا يجدون تخفيفاً لشقائهم إلَّا بأوهام جديدة يَسعدون بها لأنّها لم تخدعهم بعد، وقد كان هذا التقلُّب سبباً في اضطرابات عديدة وحروب بشِعة".
الموت بما يبعث على الخوف والتفكير الدائم بما بعده هو المنشئ الرئيسي للحضارة الإنسانية
وكما يقول كوينتوس كوريتوس، مؤرخ روماني عاش في القرن الأول الميلادي: "الخرافة هي أكثر الوسائل فاعِليَّةً لحُكم العامَّة"، ولأجل ترسيخ الحكم وطاعة الحكام فقد اتجهت العناية وبحرص شديد، كما يقول سبينوزا، إلى تجميل الدين ـ حقاً كان أو باطلاً ـ بالشعائر والمراسم التي تزيد من أهميته، وتضمن له احتراماً دائماً بين المؤمنين. وفي حالات ومراحل وتجارب للناس تُعدّ المُناقشة اليسيرة كفراً، وتطغى الأحكام السابقة على الحُكم الصحيح، ويصعب إن لم يكن مستحيلاً على العقل السليم أن يُدلي برأيٍ أو أن يُبدي مُجرَّد شكٍّ بسيط. "إنَّ السِّرَّ الكبير في هيمنة السلطة هو خِداع الناس، وإضفاء اسم الدين على الخوف الذي تَتمُّ به السيطرة عليهم، بحيث يُناضلون من أجل عبوديتهم، وكأنَّ فيها خلاصَهم، ويعتقدون أنّهم ينالون أسمى مراتب الشرَف"
يلاحظ سبينوزا أنّ الكتاب (يقصد التوراة) لا يخالف العقل أو يُناقِضُه، وأنّ التعاليم التي أتى بها الأنبياء سهلة للغاية يسهُل على الجميع إدراكها، وكلُّ ما في الأمر أنَّ هذه التعاليم قد عُرِضت بأسلوبٍ شاعري، واستندت إلى أقدَرِ الحُجَج على حضِّ عامَّة الناس على طاعة الله، وبناءً على ذلك، فإنّ "الكتاب" يترُك للعقل حُريَّته الكاملة، وأنّه لا يَشترك مع الفلسفة في شيء، بل إن لكلٍّ منهما مَيدانه الخاص. هكذا يتوصل سبينوزا إلى أنّ الكلام الذي أوحى به الله ليس عدداً مُعيَّناً من الأسفار، بل فكرة يَسيرة من الأفكار الإلهية أوحي بها للأنبياء، وهي وجوب طاعة الله بروحٍ خالصة، وذلك بِمُمارسة العدل والإحسان.
لكي تضمَن الدولة سلامتها يجب أن يكون كلُّ فردٍ حرّاً في أن يُفكِّر فيما يُريد وأن يُعبِّر عن تفكيره
ولذلك فإنّ الحرية لا تضرّ الدين أو الدولة والسياسة "ويمكن؛ بل يجِب، إعطاء الحرية لجميع الناس دون أن تتعرَّض سلامة الدولة ويَلحَق بها ضرَرٌ بالغ. فالحقُّ الطبيعي لا يُحتِّم على أيّ شخص أن يعيش على هوى الآخر، بل إنَّ كلَّ فرد هو الضامِن لحُريَّتِه الخاصَّة، كما أنّه لا يُمكن لأحدٍ أن يتخلَّى عن هذا الحق إلَّا من يُفوِّض لفردٍ آخَر قُدرته على الدفاع عن نفسه، بحيث يكون صاحِب الحقِّ الطبيعي المُطلَق هو بالضرورة من فوَّض إليه الجميع قُدرتهم على الدِّفاع عن أنفسهم وحقَّهم في أن يَحيَوا كما يَشاؤون"، وهكذا لكي تضمَن الدولة سلامتها، يجب أن يكون كلُّ فردٍ حرّاً في أن يُفكِّر فيما يُريد، وأن يُعبِّر عن تفكيره.
إنّ الإنسان في مواجهته للخوف شكّل وعيه بالحرية، بما هي قدره الوحيد ليجتهد ويبحث عن الصواب، ويكفيه لأجل ذلك أن يكون صادقاً، قال تعالى: "هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم" (سورة المائدة، 119) فالخيار البديل للحرية هو الخرافة، وبين طمأنينة الخرافة ولايقين الحرية يراوح الإنسان، أو يوازن تصوراته وخياراته التصورية والسلوكية للحياة والحضارة، وينشئ أيضاً قدره، هو لن يعرف، وربما يعرف عندما يموت، ولذلك قيل من مات عرف، عرف لأنّه مات، وأيضاً من عرف مات؛ مات لأنّه عرف"، بمعنى أنّه لن يعرف إلّا عندما يموت، فإذا عرف في الحقيقة (وهذا احتمال نظري بعيد)، فإنّها معرفة تقتله، لأنّ الواقع المحيط لا يعود يعرفه أو يتقبله، أو أنّه لن يحتمل طاقة المعرفة وثقلها المادي والشعور فتدكّه حتى الموت، وإذا عرف (متوهماً)، فإنّه يفضي بنفسه إلى الموت، بما هو الانفصال عن الواقع والحياة والناس.
وفي الآية القرآنية الكريمة: "فاعبد ربك حتى يأتيك اليقين" (سورة الحجر، 99) فُهِمَ اليقين على أنّه الموت، "وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيّاً" (مريم،31)، فوصف الموت بقرينته الحصرية (اليقين)، بمعنى أنّه لا يقين إلّا الموت، حتى صار الموت يوصف بأنّه اليقين. فأنت لا تعرف على وجه اليقين سوى الموت،... إنّه الخوف إيجاباً، بما هو البحث صادقاً ونزيهاً عن الصواب، وسلباً أو شقاءً، بما هو الخرافة والوهم.