مواجهة التطرف بالاستجابة الصحيحة للتحولات الاقتصادية والاجتماعية
كتب إبراهيم غرايبة
يفترض أن تنشأ حول اقتصاد المعرفة، بما هو التقنيات والموارد الجديدة (الحوسبة والتشبيك والتصغير والأنسنة والجينوم، والروبتة، والطابعات ثلاثية الأبعاد والبرمجة الإدراكية…)، منظومة اجتماعية وثقافية. وبالطبع تبدو التقنيات والموارد واضحة ومجمعاً عليها، لكنّ التشكل الاجتماعي والثقافي ليس واضحاً ولا حتمياً أو تلقائياً. فالمجتمعات، وإن كانت مرتبطة بالأسواق، فإنّها أبطأ منها بكثير، ولا تسلك في تشكلها على نحو متوقع تلقائياً.
يعتقد كارن روس مؤلف كتاب "الثورة بلا قيادات" أنّه حان الوقت لبناء أنظمة سياسية واجتماعية جديدة يشارك فيها جميع الناس بدلاً من الديمقراطية التمثيلية، وبالطبع الأنظمة الدكتاتورية الفردية، فالديمقراطية اليوم تواجه أزمة كبرى، مثلها مثل جميع المؤسسات والأنظمة التي تنتمي إلى المرحلة الهرمية الصناعية التي تواجه تحديات الشبكية. وربما تكون الأنظمة الاستبدادية الراسخة بآليات ديمقراطية كما الفوضى والإرهاب والحروب الدينية من تجليات هذا الفشل أو التحديات التي تواجه النظام السياسي العالمي؛ وحتى في أنظمة وبلاد ديمقراطية عريقة مثل بريطانيا بلد المؤلف وأوروبا والولايات المتحدة، فإنّ السياسة تخضع لمصالح الشركات والكارتلات، وتمخضت العولمة السائدة اليوم عن فجوات اقتصادية واجتماعية كبرى وموجات من الفقر والبؤس التي شملت مليارات البشر، وتتعرض الأعمال والموارد لتهديد غير مسبوق. فهل يمكن أن يتولى الناس جميعهم السلطة؟
ثمة فرصة واقعية اليوم تتيحها الشبكية ليشارك الناس جميعهم في التأثير في السياسة واتجاهات الإنفاق العام، إذ يمكن اليوم بناء جدالات حول التشريعات وسائر الشؤون المؤثرة في حياة الناس، وأن تكون القرارات مستمدة من مشاركة أوسع بكثير من المجالس التمثيلية المنتخبة، لقد أصبحت العودة إلى الناس جميعهم ممكنة تقنياً، وأكثر ضرورة في ظل الأزمات والتحديات التي تعصف بالمجتمعات والدول، وقد جرت على سبيل المثال في إحدى المدن البرازيلية نقاشات حول موازنة المدينة شارك فيها عشرات الآلاف من أهل المدينة.
لقد تكشفت العولمة ونهاية الحرب الباردة عن وعود وقيم وضرورات جديدة، ولكن ثبت أنّها قيم على أهميتها لا يمكن تحقيقها بالأدوات والمنظومات القائمة التي أنشأتها معطيات سابقة لم تعد موجودة، وبات واضحاً، كما يقول كارن روس، أنّ نظام احتكار السلطة من قبل الأقوى كما في الأنظمة الاستبدادية الفردية يمتد إلى الأنظمة الديمقراطية، ففي الولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال تتفوق جماعات الضغط والشركات على مجالس النواب المنتخبة وتهيمن عليها، وأظهرت الأزمة المالية العالمية في العام 2008 عجز النظام العالمي السائد عن إدارة شؤونه وأزماته المتغيرة، بل إنّه نظام يضيف الفساد إلى العجز، فقد أظهرت الأزمة والأحداث والمعلومات المتسربة أكثر بفضل الشبكة أنّ الأغنياء يسددون ضرائب أقلّ من الفقراء.
في المظاهرات التي جرت في نيويورك رافعة شعار "احتلوا وول ستريت" لم يطالب المتظاهرون بقادة جدد وسياسات جديدة، كما هي العادة في التظاهرات والاحتجاجات السياسية في الغرب، لكنّ المطالب كانت حوارات وقرارات شاملة للجميع، وثقافة قائمة على التعاون والتشارك، فلم تعد عمليات انتخاب قادة يجتمعون في غرف مغلقة تعبّر عن ولاية المواطنين وأنّ الأمة مصدر السلطات، وكما أنّ ديوك الحبش لن تصوت لمصلحة عيد الشكر، أو الخراف لعيد الأضحى، فإنّ المؤسسات القائمة لن تصلح نفسها ما دام واقعها القائم يعكس مصالحها ومكاسبها، ولم يعد مُؤملاً أن تؤدي السياسات الحكومية إلى حل مشكلات جذرية مستعصية مثل التغير المناخي أو التلوث أو الاغتراب الجماعي.
الاستجابة المقترحة تأتي في (3) مسارات: إنشاء العلاقة الصحيحة والملائمة بين الموارد والتقنيات وبين التشكلات والاستجابات الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية؛ ومواجهة العلاقات والتشكلات الخاطئة، وإعادة صياغة الأهداف والأغراض العملية للإصلاح في ظل الفرص والتحديات الجديدة الناشئة عن هذه التقنيات والموارد؛ وأخيراً إعادة تعريف الإصلاح نفسه، والتمييز بين الإصلاح وضده.
أتوقع أنّ الاتجاهات الاجتماعية والثقافية الجديدة، الصاعدة في ظل اقتصاد المعرفة وتقنياتها، تتمثل في (5) اتجاهات رئيسة؛ هي: أسلوب الحياة ومهاراتها؛ والمجتمعات والمدن المستقلة؛ والفنون الجميلة والإبداعية، من العمارة والشعر والموسيقى والتصميم والرواية والرسم؛ والفلسفة والتصوف؛ والإنسان الذي يعمل بنفسه ولنفسه. وبالطبع، فإنّها مقولات وتقديرات تحتاج إلى توضيح وإثبات.
مؤكد أنّ الإنسان يبحث ويفكر في القيم الجديدة والناشئة، وتلك المتغيرة بفعل التحولات التي تجري في الأسواق والموارد. وبسبب سرعة هذه التحولات وجذريتها؛ فإنّ الأفراد والمجتمعات يعطون أولوية وأهمية لأسلوب الحياة، باعتباره التكيف الضروري الذي يجب اتباعه. وكانت الفردية ضريبة تؤدى في مجتمعات واقتصاد الصناعة، لكنّها تتحول في اقتصاد المعرفة إلى فضيلة وضرورة اجتماعية، يحمي بها الإنسان نفسه من الانتهاك والخواء. وهكذا تصعد قيم الفردية باعتبارها مبدأ أخلاقياً رفيعاً وحقاً جديداً للإنسان، ليحمي نفسه من تداعيات التقنيات الجديدة ومتوالياتها، وليرتقي بنفسه، ويحلّ فيها القيم والمعرفة والمهارات الجديدة التي تحميه من المجتمع واتجاهاته الجديدة.
والعلاقات الاجتماعية نفسها تتعرض لتحولات وتحديات؛ ففي فرص العمل، في المنزل أو عن بُعد، يقلّ الدور الاجتماعي لمؤسسات العمل، وهي نفسها تواجه الانحسار والتحول. وفي فرص التعلم الذاتي وعن بُعد، يقلّ الدور الاجتماعي للمدارس والجامعات. وهكذا فإنّ الإنسان في حاجة إلى أوعية جديدة لتنظيم علاقاته.
صار الإبداع القوة الرئيسة المحركة لاقتصاد المعرفة وأسواقها، وهذا يجعله هدفاً أساسياً للتعليم والتدريب، ومقياساً للتقدم المهني والاجتماعي، وجوهر التنافس على فرص العمل والقيادة. وهكذا تصبح الثقافة والفنون والموسيقى والكتابة الإبداعية والشعر والرواية والقصة والعمارة والتصميم، المحتوى الأساسي للمؤسسات التعليمية والتدريبية؛ لأنّ الإبداع والخيال أهم صفة يجب أن تتحلى بها السوق والعاملون فيها.
يعتمد التقدم العلمي والتقني الجديد على معرفة الإنسان وفهمه. ففي محاكاة التقنية للإنسان تصعد علوم اللغة وعلم النفس والاحتمالات. فجوهر التقدم العلمي والتقني اليوم هو تحويل اللغة والإمكانات والمهارات العقلية والتحليلية والتذكر والتداعيات والترجمة والتفكير، إلى رموز وبرامج حاسوبية وأجهزة وروبوتات.
بطبيعة الحال، يصعد عدم اليقين ليحلّ محلّ اليقين؛ فتتراجع أهمية العلوم اليقينية. وتصعد علوم الفلسفة والمنطق والإحصاء والاحتمالات، وتحتل موقعاً جوهرياً ومؤثراً في العلم والتقنية والحياة. وفي إعادة النظر في المعنى والجدوى والوجود والمصير، يصعد التصوف والفلسفة؛ التصوف بما هو التأمل الفردي والبحث عن الإجابات والإلهام، والفلسفة بما هي محاولة إدراك حقائق الأشياء.
إنسان المعرفة، بفرديته وإمكاناته الجديدة، في المعرفة والعمل، وقدراته على العمل بنفسه، يعيد تعريف المهن والحرف. وتتغير تبعاً لذلك المدن والمجتمعات، وعلاقتها بالأفراد والدولة والسوق. ففي مدن الأفراد القادرين على العمل بأنفسهم ولأنفسهم، والذين لم يعودوا في مواردهم يرتبطون بمؤسسات عمل محددة، وأنظمة عمل تقليدية، يتغير تخطيط المدن والطرق والبيوت، وتتغير أيضاً العلاقة مع السلطات والأسواق… إنّها مدن ومجتمعات أقرب إلى الاستقلالية والقدرة على تنظيم احتياجاتها وأولوياتها أو معظمها، بلا حاجة كبيرة إلى السلطة المركزية، فتصعد أنظمة الحكم المحلي واللّامركزية، ويدبر الأفراد وأهل المدن معظم احتياجاتهم وخدماتهم الأساسية، ممّا يجعلهم أكثر ولاية على أنفسهم واحتياجاتهم وخدماتهم، ويصبح للديمقراطية والحريات محتوى ومعنى جديدان ومختلفان.